الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم، وقال أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة. فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم، يقولون: هم كفار كآبائهم فنقتلهم.

وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا، هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنه لا بد من مرب يربيه، وإنما يربيه أبواه، فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، لكونه هو الذي يربيه. وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما، ففيه نزاع للعلماء. [ ص: 431 ]

واحتجاج الفقهاء، كأحمد وغيرهم، بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما، لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما، لم يكن هناك من يغير دينه، وهو مولود على الملة الحنيفية، فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض، ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين، لكان الصبي المسبي بمنزلة الكافر.

ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما، لأنه صار كافرا حقيقة. فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة، لم ينتقل عن الكفر بالسباء، فعلم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه، لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر.

يبين ذلك أنه لو سباه كفار، لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلما، فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه.

فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه. وذكر -صلى الله عليه وسلم- الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال، فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما، بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك. [ ص: 432 ]

ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر: « كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكرا وإما كفورا» . فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يثبت له أحد الأمرين، ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين، لكان ذلك من حين يولد، قبل أن يعرب عنه لسانه.

وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح، حديث عياض بن حمار، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: « إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» . صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك، فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد، لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه، لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك، بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية