الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما كونهم لا يدينون دين الحق ، فمعناه على القول الأول فيما قبله أنهم لا يدينون الله بدينه الحق الكامل الأخير ، المكمل والمبين لما اختلفوا فيه من قبل ، والناسخ لما لا يصلح للبشر منه فيما بعد ، وهو الإسلام . يقال : دان دين الإسلام أو غيره ودان به . وهو الأصل ، ومعناه على القول الثاني : أن الدين الذي يتقلده كل منهم إنما هو دين تقليدي وضعه لهم أحبارهم وأساقفتهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية ، لا دين الله الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى عليهما السلام . ذلك بأن اليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى ، وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده ، ويخالفهم الفاسقون الناقضون لعهده الذي أخذه عليهم قبل موته ، إلى أن عاقبهم الله تعالى بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار ، وأحرقوا الهيكل وما فيه من تلك الأسفار ، وسبقوا بقية السيف منهم ، وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض مستعبديهم ، فدانوا لشريعة غير شريعتهم ، ولما أعتقوهم من الرق وأعادوهم إلى تلك الأرض ، وكانوا قد فقدوا نص التوراة ، وإنما حفظوا بعضها دون بعض ، كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ، ممزوجا بما دانوا من شريعة ملك بابل كما أمر كاهنهم عزرا ( عزيرا ) ثم إنهم حرفوا وبدلوا ، ولم يقيموها كما أمروا .

                          وكذلك النصارى لم يحفظوا كل ما بلغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض تشديدات التوراة ، وهو دين الله الحق ، بل كتب كثيرون منهم تواريخ له ، وأودعها كل كاتب منهم ما عرفه من ذلك ومن غيره ، فجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون ، فاعتمدت أربعة أناجيل من زهاء سبعين إنجيلا رفضتها وسمتها [ أبو كريف ] أي غير قانونية ، وقد وصل إلينا إنجيل القديس برنابا منها ، وهو من أصحاب المسيح ورسله لهداية الناس ، فإذا فيه من أصول التوحيد والصفات الإلهية والحكم والمواعظ العالية ما يفوق ما في الأربعة القانونية .

                          ثم إنهم نقضوا شريعة التوراة من بعده ، وأخذوا بتعاليم بولس كما تقدم ، وهو فيلسوف يهودي تنصر بعد المسيح ، وقبل تنصره الحواريون الذين يسمونهم ( الرسل ) بشفاعة برنابا ; لأنه كان عدوا لهم ، مع أنهم ينقلون عن المسيح أنه قال : ما جئت لأنقض الناموس ، وإنما جئت لأتمم " والناموس : هو شريعة موسى ، وهذا موافق لما حكاه الله تعالى عنه بقوله في سورة آل عمران : ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 3 : 50 ، 51 ) وإنما قال : لما بين يدي من التوراة أي: الشريعة ; لأن بعضها كان فقد بإحراق [ ص: 254 ] البابليين لنسخة موسى التي كتبها بيده ، كما ذكرنا آنفا وتقدم من قبل مفصلا . ولم يكتف النصارى بهذا بل وضع لهم أحبار رومية وغيرهم من أساقفتهم ورهبانهم شرائع كثيرة في العبادات والحلال والحرام يخالف فيها كل فريق منهم مذهب الآخر .

                          يقول الله تعالى فيما ذكرناه آنفا عن أهل الملتين بعد ذكر ما أخذه على أمة موسى من الميثاق من سورة المائدة : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( 5 : 13 و 14 ) وفي الآيتين من الحقائق التي كانت مجهولة ، ومن أخبار الغيب عن الماضي والمستقبل ، ما يعد من حجج القرآن على أنه وحي من الله ليس للنبي الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه إلا تبليغه والعمل به .

                          فعلم من هذا أن كلا منهم نسي حظا عظيما مما ذكرهم به نبيهم ، ولم يعملوا بالبعض الآخر كله ، بل أكثرهم عباداتهم وما يسمى الطقوس والناموس الأدبي هو من وضع أحبارهم ورهبانهم كما سيأتي قريبا في تفسير : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ( 31 ) وإنما كان دين الحق عندهم ما جاءهم به موسى وعيسى عليهما السلام ، ولو أنهم حفظوه وأقاموه كما أنزل أو دانوا بما حفظوا منه دون غيره لهداهم إلى اتباع المصلح الأعظم الذي بعثه الله تعالى مكملا لدينه ، ولا تزال بشارات أنبيائهم به محفوظة فيما بقي لهم من كتبهم ، وهو محمد خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين .

                          فقوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب بعد ما تقدم من الصفات السلبية بيان للمراد من المتصفين بها ، والمراد بالكتاب جنس الكتاب الإلهي الذي يشمل التوراة والإنجيل وزبور داود وغيرها ، ولكن لقب " أهل الكتاب " و " الذين أوتوا الكتاب " وإن كان لفظه عاما خص به اليهود والنصارى ; لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين عندها ، كما قال تعالى مخاطبا لمشركي العرب : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( 6 : 156 ) وفي نصوص القرآن الصريحة أن الله تعالى : أرسل رسلا في جميع الأمم يأمرونهم بعبادته تعالى وحده ، وباجتناب الطاغوت ، وينذرونهم يوم الجزاء ، وأن منهم من قصه على خاتم الأنبياء والمرسلين في كتابه ، ومنهم من لم يقصص عليه ، ومن المعقول أن يكون أولو الحضارة منهم كالصينيين والهنود والفرس والمصريين واليونان قد كتبوا كلهم أو بعضهم ما أوحي إلى رسلهم فضاع بطول الأمد أو خلط بغيره ولم يعد أصله معروفا ، وإذا كان اليهود والنصارى قد كان من أم كتبهم [ ص: 255 ] ما علمنا من ضياع بعضها وانقطاع سند ما بقي منها ، والعهد قريب ، فلا غرو أن يكون ما سبقها من الكتب أضيع - والعهد بعيد أي بعيد .

                          وقد ذكر الله تعالى الصابئين والمجوس منهم في كتابه لاتصال بلادهم ببلاد العرب ، فلم يدخلهم في عموم المشركين ولا نظمهم في سلك أهل الكتاب ; لأنه جعل لقب " المشركين " خاصا بوثني العرب ، ولقب " أهل الكتاب " خاصا باليهود والنصارى ، وإن كان قد دخل عليهم الشرك ، والتاريخ يدل على أن الفريقين كانا أهل كتاب ، أما الصابئون فقد ذكروا مع المؤمنين واليهود والنصارى في آية سورة البقرة ( 2 : 62 ) وآية سورة المائدة ( 5 : 69 ) وأما المجوس فقد ذكروا مع أولئك كلهم في قوله تعالى في سورة الحج : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( 22 : 17 ) فقد جعل المجوس قسما مستقلا ، وجاءت السنة بمعاملتهم كأهل الكتاب في انتهاء قتالهم بالجزية ، فدل ذلك على أنهم كانوا أهل كتاب ، وإن لم يحفظ منه ما يصحح إطلاق اللقب عليهم ، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه ، وجزم به الشافعي في الأم ، والصابئون أولى بذلك منهم ، كما يؤخذ من آيتي البقرة والمائدة المشار إليهما آنفا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية