الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1514 مسألة :

                                                                                                                                                                                          ولا يحل بيع كلب أصلا ، لا كلب صيد ولا كلب ماشية ، ولا غيرهما ، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه ، وهو حلال للمشتري حرام على البائع ينتزع منه الثمن متى قدر عليه ، كالرشوة في دفع الظلم ، وفداء الأسير ، ومصانعة الظالم ولا فرق . [ ص: 493 ]

                                                                                                                                                                                          ولا يحل اتخاذ كلب أصلا ، إلا لماشية ، أو لصيد ، أو لزرع ، أو لحائط واسم الحائط يقع على البستان وجدار الدار فقط .

                                                                                                                                                                                          ولا يحل أيضا : قتل الكلاب ، فمن قتلها ضمنها بمثلها ، أو بما يتراضيان عليه عوضا منه ، إلا الأسود البهيم ، أو الأسود ذا النقطتين أينما كانت النقطتان منه فإن عظمتا حتى لا تسميا في اللغة العربية نقطتين ، لكن تسمى لمعتين : لم يجز قتله ، فلا يحل ملكه أصلا لشيء مما ذكرنا ، وقتله واجب حيث وجد .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك ما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه نا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني إبراهيم بن قارظ عن السائب بن يزيد حدثني رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وكسب الحجام خبيث } فهذان صاحبان في نسق .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي مسعود الأنصاري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن }

                                                                                                                                                                                          وصح أيضا من طريق أبي هريرة وجابر وأبي جحيفة

                                                                                                                                                                                          فهذا نقل تواتر لا يسع تركه ولا يحل خلافه .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق أحمد بن شعيب نا الحسن بن أحمد بن شبيب نا محمد بن عبد الرحمن بن نمير نا أسباط نا الأعمش عن عطاء بن أبي رباح قال : قال أبو هريرة : { أربع من السحت ، ضراب الفحل ، وثمن الكلب ، ومهر البغي ، وكسب الحجام . }

                                                                                                                                                                                          ورويناه عن جابر أيضا . [ ص: 494 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسرائيل عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن ابن عباس رفعه { ثمن الكلب ومهر البغي وثمن الخمر حرام } وأقل ما فيه أن يكون قول ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن إدريس عن أشعث عن ابن سيرين قال : أخبث الكسب كسب الزمارة ، وثمن الكلب .

                                                                                                                                                                                          الزمارة : الزانية ، سمعت أبا عبيدة يقول ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا يونس بن محمد نا شريك عن أبي فروة سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : ما أبالي ثمن كلب أكلت ، أو ثمن خنزير .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن إدريس عن شعبة سمعت الحكم ، وحماد بن أبي سليمان يكرهان ثمن الكلب ولا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان ، وأبي ثور ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          وخالف الحنفيون السنن في ذلك ، وأباحوا بيع الكلاب ، وأكل أثمانها .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا في ذلك بما روينا من طريق أحمد بن شعيب ، قال : أخبرني إبراهيم بن الحسن بن أحمد المصيصي نا حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد }

                                                                                                                                                                                          وبما روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل نا ابن أبي مريم نا يحيى بن أيوب حدثني المثنى بن الصباح عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ثمن الكلب سحت إلا كلب صيد }

                                                                                                                                                                                          وما رويناه من طريق ابن وهب عمن أخبره عن ابن شهاب عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ثلاث هن سحت : حلوان الكاهن ، ومهر الزانية ، وثمن الكلب العقور . } [ ص: 495 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن الشمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب العقور . }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما حديثا ابن وهب هذان فأسقط من أن يشتغل بهما إلا جاهل بالحديث ، أو مكابر يعلم الحق فيوليه ظهره ، لأن حسين بن عبد الله في غاية السقوط والاطراح باتفاق أهل النقل ، والآخر منقطع في موضعين .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صحا لما كان لهم فيهما حجة ، لأنه ليس فيهما إلا النهي عن ثمن الكلب العقور فقط وهذا حق ، وليس فيه إباحة ثمن ما سواه من الكلاب وجاءت الآثار المتواترة التي قدمنا بزيادة على هذين لا يحل تركها .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث أبي هريرة : ففي غاية السقوط لأن فيه يحيى بن أيوب ، والمثنى بن الصباح ، وهما ضعيفان جدا قد شهد مالك على يحيى بن أيوب بالكذب ، وجرحه أحمد

                                                                                                                                                                                          وأما المثنى : فجرحه بضعف الحديث أحمد ، وتركه يحيى ، وعبد الرحمن

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لكان حجة عليهم ; لأنه ليس فيه إلا استثناء كلب الصيد فقط ، وهم يبيحون ما حرم فيه من ثمن كلب الزرع ، وكلب الماشية ، وسائر الكلاب فهم مخالفون لما فيه .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث جابر : فإنه من رواية أبي الزبير عنه ، ولم يسمعه منه بإقرار أبي الزبير على نفسه ، حدثني يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الله بن عمر ومحمد بن يوسف الأزدي نا إسحاق بن أحمد العقيلي نا زكريا بن يحيى الحلواني نا محمد بن سعيد بن أبي مريم نا أبي نا الليث بن سعد ، قال : إن أبا الزبير دفع إلي كتابين ، فقلت في نفسي : لو سألته أسمع هذا كله من جابر ؟ فرجعت إليه فقلت : هذا كله سمعته من جابر ؟ فقال : منه ما سمعته ، ومنه ما حدثت عنه ، فقلت له : أعلم لي على ما سمعت ؟ فأعلم لي على هذا الذي عندي .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فكل حديث لم يقل فيه أبو الزبير : أنه سمعه من جابر ، أو حدثه به جابر أو لم يروه الليث عنه عن جابر فلم يسمعه من جابر بإقراره .

                                                                                                                                                                                          وهذا الحديث لم يذكر فيه أبو الزبير سماعا من جابر ، ولا هو مما عند الليث فصح أنه لم يسمعه من جابر ، فحصل منقطعا . [ ص: 496 ]

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لكانوا مخالفين له ، لأنه ليس فيه إباحة ثمن شيء من الكلاب غير كلب الصيد ، والنهي عن ثمن سائرها وهم يبيحون أثمان سائر الكلاب المتخذة لغير الصيد : فبطل كل ما تعلقوا به من الآثار .

                                                                                                                                                                                          وأما النظر فإنهم قالوا : كان النهي عن ثمنها حين الأمر بقتلها ، فلما حرم قتلها وأبيح اتخاذ بعضها انتسخ النهي عن ثمن ما أبيح اتخاذه منها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا كذب بحت على الله تعالى ، وعلى رسوله عليه السلام ، لأنه إخبار بالباطل ، وبما لم يأت به قط نص ، ودعوى بلا برهان ، وليس نسخ شيء بموجب نسخ شيء آخر ، وليس إباحة اتخاذ شيء بمبيح لبيعه ، فهؤلاء هم القوم المبيحون اتخاذ دود القز ، ونحل العسل ، ولا يحلون ثمنهما إضلالا وخلافا للحق ، واتخاذ أمهات الأولاد حل ، ولا يحل بيعهن : فظهر فساد هذا الاحتجاج .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : حرم ثمن الكلب ، وكسب الحجام ، فلما نسخ تحريم كسب الحجام نسخ تحريم ثمن الكلب ؟ قال أبو محمد : وهذا كذب كالذي قبله ، وكلام فاسد ، ودعوى بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          ويلزمهم أيضا : أن ينسخ أيضا تحريم مهر الزانية ; لأنه ذكر معهما ، ثم من لهم بنسخ تحريم كسب الحجام إذا وقع على الوجه المنهي عنه .

                                                                                                                                                                                          فوضح فساد قولهم جملة ، وهذا مما خالفوا فيه الآثار المتواترة ، وصاحبين لا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا قضاء عثمان وعبد الله بن عمرو بقيمة الكلب العقور ؟ قلنا : ليس هذا خلافا ; لأنه ليس بيعا ، ولا ثمنا ، إنما هو قصاص مال عن فساد مال فقط ، ولا ثمن لميت أصلا .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر ، وأبي المهزم عن أبي هريرة : أنهما كرها ثمن الكلب إلا كلب صيد ، وكرها ثمن الهر وأبو المهزم ضعيف جدا ، وقد خالفوهما في ثمن الهر كما ترى . [ ص: 497 ]

                                                                                                                                                                                          وقد روينا إباحة ثمن الكلب عن عطاء ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وعن إبراهيم إباحة ثمن كلب الصيد ، ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وأما من احتاج إليه ، فقد قال الله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } فما لا يحل بيعه ، وتحل هبته ، فإمساك من عنده منه فضل عن حاجته ذلك : الفضل عمن هو مضطر إليه ظلم له .

                                                                                                                                                                                          وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه } والظلم واجب أن يمنع منه وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          وأما اتخاذها : فإننا روينا من طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور أنا روح بن عبادة نا ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى رسول الله عن قتلها ، وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمران بن موسى نا يزيد بن زريع أنا يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم ، وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب حرث ، أو صيد ، أو ماشية ، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من اقتنى كلبا ليس بكلب [ ص: 498 ] صيد ، ولا ماشية ، ولا أرض ، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم } وتدخل الدار في جملة الأرض ; لأنها أرض .

                                                                                                                                                                                          فهذه الأحاديث فيها نص ما قلنا .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا عن إبراهيم النخعي أمرنا بقتل الكلب الأسود ، وقد ذكرناه بإسناده في " كتاب الصيد " من ديواننا هذا وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية