الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  [ ص: 154 ] كتاب آداب السفر

                                                                  اعلم أن كل من سافر وكان مطلبه العلم والدين أو الكفاية للاستعانة على الدين كان من سالكي سبيل الآخرة ، وكان له في سفره شروط وآداب إن أهملها كان من عمال الدنيا وأتباع الشيطان ، وإن واظب عليها لم يخل سفره عن فوائد تلحقه بأعمال الآخرة . وإليك جملة من أقسام الأسفار :

                                                                  القسم الأول : السفر في طلب العلم ، وهو إما واجب وإما نفل وذلك بحسب كون العلم واجبا أو نفلا ، وذلك العلم إما علم بأمور دينية أو بأخلاقه في نفسه أو بآيات الله في أرضه ، وقد قال عليه السلام : " من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " ، ورحل " جابر بن عبد الله " من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه عن " عبد الله بن أنيس ، حتى سمعه عنه ، وقال " الشعبي " : " لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا " .

                                                                  وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك مهم ، فإن من لا يطلع على خبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها ، والنفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات ، فإذا امتحنت بمشاق الغربة وقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعيوبها . وأما آيات الله في أرضه ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر ، ففيها قطع متجاورات ، وفيها الجبال والبراري والبحار ، وأنواع الحيوان والنبات ، وما من شيء منها إلا وهو شاهد لله بالوحدانية .

                                                                  القسم الثاني : أن يسافر لأجل العبادة من حج أو جهاد ، وفي الحديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى " .

                                                                  القسم الثالث : أن يكون السفر للهرب من سبب مشوش للدين وذلك أيضا حسن ، فالفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء والمرسلين . وقد كان من عادة السلف رضي الله عنهم مفارقة الوطن خيفة من الفتن . وروي أن بعضهم قيل له : " إلى أين " ؟ قال : " بلغني عن قرية [ ص: 155 ] فيها رخص أريد أن أقيم بها " ، فقيل له : " وتفعل هذا " ؟ قال : " نعم إذا بلغك أن قرية فيها رخص فأقم بها فإنه أسلم لدينك وأقل لهمك " . وهذا هرب من غلاء السعر .

                                                                  القسم الرابع : السفر هربا مما يقدح في البدن كالطاعون ، أو في المال كغلاء السعر أو ما يجري مجراه . ولا حرج في ذلك ، بل ربما يجب الفرار في بعض المواضع وربما يستحب في بعض بحسب وجوب ما يترتب عليه من الفوائد أو استحبابه ، ولكن يستثنى الطاعون منه فلا ينبغي أن يفر منه لورود النهي فيه . وبالجملة فالسفر ينقسم إلى مذموم ومحمود ومباح ، والمذموم منه حرام كالسفر للعاق لوالديه ، ومنه مكروه كالخروج من بلد الطاعون ، والمحمود منه واجب كالحج وطلب العلم الذي هو فريضة على كل مسلم ، ومنه مندوب كزيارة العلماء للتخلق بأخلاقهم وآدابهم وتحريك الرغبة للاقتداء بهم واقتباس الفوائد العلمية من أنفاسهم ، وأما المباح فمرجعه إلى النية ، فمهما كان قصده بطلب المال مثلا التعفف عن السؤال . ورعاية ستر المروءة على الأهل والعيال ، والتصدق بما يفضل عن مبلغ الحاجة صار هذا المباح بهذه النية من أعمال الآخرة ، ولو خرج إلى الحج وباعثه الرياء والسمعة لخرج عن كونه من أعمال الآخرة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الأعمال بالنيات " .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية