الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  343 16 - ( حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم خمسة كلهم قد ذكروا ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ومالك بن أنس .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه : التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد ، وكذلك الإخبار في موضع واحد ، وفيه : العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه : أن رواته ما بين مصري ومدني ، وهذا من مراسيل عائشة ؛ لأنها لم تدرك القصة ، ويحتمل أن تكون أخذت ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي آخر ، وعلى كل حال فهو حجة لأن هذا مما لا مجال للرأي فيه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن [ ص: 52 ] أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الهجرة عن مسدد عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ، قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ، ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرضت أربعا " ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وأبو داود فيه عن القعنبي والنسائي فيه عن قتيبة أربعتهم عن مالك عن صالح بن كيسان به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه وما يستنبط منه ) قولها : " فرض الله " أي : قدر الله ، والفرض في اللغة التقدير ، هكذا فسره أبو عمر . قولها : " الصلاة " أي الصلاة الرباعية ، وذلك لأن الثلاثة وتر صلاة النهار ، وأشار إلى ذلك في رواية أحمد من حديث ابن إسحاق قال : حدثني صالح بن كيسان عن عروة إلى آخره وفيه " إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا " وذكر الداودي أن الصلوات زيدت فيها ركعتان ركعتان ، وزيدت في المغرب ركعة ، وفي سنن البيهقي من حديث داود بن أبي هند عن عامر عن مسروق عن عائشة قالت : " إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين ، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب ؛ لأنها وتر صلاة الغداة ، قالت : وكان إذا سافر صلى الصلاة الأولى " ، قولها : " ركعتين ركعتين " بالتكرار ليفيد عموم التثنية لكل صلاة ؛ لأن قاعدة كلام العرب أن تكرار الاسم المراد تقسيم الشيء عليه ، ولولاه لكان فيه إيهام أن الفريضة في السفر والحضر ما كانت إلا فرد ركعتين فقط ، وانتصب ركعتين ركعتين على الحالية ، والتكرار في الحقيقة عبارة عن كلمة واحدة نحو مثنى ، ونظيرها قولك : هذا مزاي قائم مقام الحلو والحامض . قولها : " وزيد في صلاة الحضر " يعني زيدت فيها حتى تكملت خمسا ، فتكون الزيادة في عدد الصلوات ، ويكون قولها فرضت الصلاة ركعتين أي : قبل الإسراء ؛ لأن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها ، ويشهد له قوله تعالى : وسبح بالعشي والإبكار قاله أبو إسحاق الحربي ويحيى بن سلام ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون معنى فرضت الصلاة أي : ليلة الإسراء حين فرضت الصلاة الخمس فرضت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك ، فتكون الزيادة في عدد الركعات ، وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة . وممن رواه هكذا الحسن والشعبي أن الزيادة في الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه ، وقد ذكر البخاري من رواية معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : " فرضت الصلاة " الحديث . وقد ذكرناه عن قريب ، وقال بعضهم : فرضت الصلاة ركعتين ، يعني إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك ، وإن اختار أن يكون أربعا فله ذلك ، وقيل : يحتمل أن تريد بقولها : فرضت الصلاة أي : قدرت ثم تركت صلاة السفر على هيئتها في المقدار لا في الإيجاب . والفرض في اللغة التقدير ، وقال النووي : يعني فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم ، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار ، واحتج أصحابنا بهذا الحديث ؛ أعني قول عائشة - رضي الله تعالى عنها - المذكور في هذا الباب على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة ، وبما رواه مسلم أيضا عن مجاهد عن ابن عباس قال : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة " ورواه الطبراني في معجمه بلفظ : " افترض رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا " وبما رواه النسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : " صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ورواه ابن حبان في صحيحه ، ولم يقدحه بشيء ( فإن قلت ) قال النسائي : فيه انقطاع ؛ لأن ابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر ( قلت ) حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر ، وصرح في بعض طرقه فقال : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سمعت عمر بن الخطاب ، فذكره ، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن الحسين بن واقد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه ، قال : خرجت مع عمر بن الخطاب فذكره ، وقال الشافعي ومالك وأحمد : القصر رخصة . واحتجوا بحديث أخرجه أبو داود بإسناده عن يعلى بن أمية قال : ( قلت ) لعمر بن الخطاب عجبت من اقتصار الناس الصلاة اليوم وإنما قال الله تعالى : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد ذهب ذلك اليوم ، فقال : عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " وأخرجه مسلم أيضا والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان ، وبما أخرجه الدارقطني عن عمر بن سعيد عن [ ص: 53 ] عطاء بن أبي رباح عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم " ، وقال الدارقطني : إسناده صحيح ، وقد رواه البيهقي عن طلحة بن عمرو ، ودلهم بن صالح ، والمغيرة بن زياد ، وثلاثتهم ضعفاء عن عطاء عن عائشة قال : والصحيح عن عائشة موقوف . والجواب عن الحديث الأول أنه حجة لنا ؛ لأنه أمر بالقبول فلا يبقى خيار الرد شرعا إذ الأمر للوجوب ( فإن قلت ) المتصدق عليه يكون مختارا في قبول الصدقة كما في المتصدق عليه من العباد ( قلت ) معنى قوله : " تصدق الله بها عليكم " حكم عليكم لأن التصدق من الله فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط كالعفو من الله . والجواب عن الحديث الثاني أنه معارض بحديث آخر أخرجه البخاري ومسلم عن حفص بن عاصم عن ابن عمر قال : " صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر ، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى ، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وإليه ذهب علماء أكثر السلف ، وفقهاء الأمصار أي : إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة ، وقال حماد بن أبي سليمان : يعيد من صلى في السفر أربعا ، وعن مالك يعيد ما دام في الوقت . وقال أحمد : السنة ركعتان ، وقال مرة أخرى : أنا أحب العافية من هذه المسألة ، وقال الخطابي : والأولى أن يقصر المسافر الصلاة ؛ لأنهم أجمعوا على جوازها إذا قصر واختلفوا فيما إذا أتم والإجماع مقدم على الاختلاف ، وسقط بهذا كله ما قاله بعضهم ، ويدل على أنه - أي القصر - رخصة أيضا ، قوله - عليه الصلاة والسلام - : " صدقة تصدق الله بها عليكم " ، وقال أيضا : احتج مخالفهم - أي : مخالف الحنفية - بقوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن لأن القصر إنما يكون من شيء أطول منه ( قلت ) الجواب عنه أن المراد من القصر المذكور فيها هو القصر في الأوصاف من ترك القيام إلى القعود ، أو ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لخوف العدو بدليل أنه علق ذلك بالخوف إذ قصر الأصل غير متعلق بالخوف بالإجماع بل متعلق بالسفر ، وعندنا قصر الأوصاف مباح لا واجب ، مع أن رفع الجناح في النص لدفع توهم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحضر ، وذلك مظنة توهم النقصان ، فرفع ذلك عنهم ، وقال هذا القائل أيضا ، والزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته ، فالعبرة بما روي بأنه ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر ( قلت ) قاعدة الحنفية على أصلها ، ولا يلزم من إتمام عائشة في السفر النقض على القاعدة ؛ لأن عائشة كانت ترى القصر جائزا والإتمام جائزا ، فأخذت بأحد الجائزين ، وإنما يرد على قاعدتنا ما ذكره أن لو كانت عائشة تمنع الإتمام ، وكذلك الجواب في إتمام عثمان - رضي الله تعالى عنه - ، وهذا هو الذي ذكره المحققون في تأويلهما ، وقيل : لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما كانا في منازلهما ، وأبطل بأنه - عليه الصلاة والسلام - كان أولى بذلك منهما ، وقيل : لأن عثمان تأهل بمكة ، وأبطل بأنه - صلى الله عليه وسلم - سافر بأزواجه وقصر ، وقيل : فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنون أن فرض الصلاة ركعتان أبدا سفرا وحضرا ، وأبطل بأن هذا المعنى إنما كان موجودا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان ، وقيل : لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج وأبطل بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث ، وقيل : كان لعثمان أرض بمنى ، وأبطل بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية