الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أمر القرامطة

فيها أنفذ زكرويه بن مهرويه ، بعد قتل صاحب الشامة ، رجلا كان يعلم الصبيان بالرافوفة من الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد ، ويكنى أبا غانم ، فسمي نصرا ، وقيل كان المنفذ ابن زكرويه ، فدار على أحياء العرب من كلب وغيرهم يدعوهم إلى رأيه ، فلم يقبله منهم أحد ، إلا رجلا من بني زياد يسمى مقدام بن الكيال ، واستقوى بطوائف من الأصبغيين المنتمين إلى الفواطم ، وغيرهم من العليصيين ، وصعاليك من سائر بطون كلب ، وقصد ناحية الشام ، والعامل بدمشق والأردن أحمد بن كيغلغ ، وهو بمصر يحارب الخلنجي ، فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد ، وسار إلى بصرى

[ ص: 550 ] وأذرعات والبثنية ، فحارب أهلها ، ثم أمنهم ، فلما استسلموا إليه قتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم .

ثم قصد دمشق ، فخرج إليهم نائب ابن كيغلغ ، وهو صالح بن الفضل ، فهزمه القرامطة ، وأثخنوا فيهم ، ثم [ أمنوهم ] وغدروهم بالأمان ، وقتلوا صالحا ، وفضوا عسكره ، وساروا إلى دمشق ، فمنعهم أهلها ، فقصدوا طبرية ، وانضاف إليه جماعة من جند دمشق افتتنوا به ، فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي ، وهو خليفة أحمد بن كيغلغ بالأردن ، فهزموه ، وبذلوا له الأمان ، وغدروا به ، وقتلوه ، ونهبوا طبرية ، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وسبوا النساء .

فأنفذ الخليفة الحسين بن حمدان وجماعة من القواد في طلبهم ، فوردوا دمشق ، فلما علم بهم القرامطة رجعوا نحو السماوة ، وتبعهم الحسين في السماوة وهم ينتقلون في المياه ويغورونها ، حتى لجئوا إلى ماءين يعرف أحدهما بالدمعانة ، والآخر بالحبالة .

وانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء ، وعاد إلى الرحبة ، وأسرى القرامطة مع نصر إلى هيت وأهلها غافلون ، فنهبوا ربضها ، وامتنع أهل المدينة بسورهم ، ونهبوا السفن ، وقتلوا من أهل المدينة مائتي نفس ، ونهبوا الأموال والمتاع ، وأوقروا ثلاثة آلاف راحلة من الحنطة .

وبلغ الخبر إلى المكتفي فسير محمد بن إسحاق بن كنداج ، فلم يقيموا لمحمد ، ورجعوا إلى الماءين فنهض محمد خلفهم ، فوجدهم قد غوروا المياه ، فأنفذ إليه من بغداذ الأزواد والدواب ، وكتب إلى ابن حمدان بالمسير إليهم من جهة الرحبة ليجتمع هو ومحمد على الإيقاع بهم ، ففعل ذلك .

فلما أحس الكلبيون بإقبال الجيش إليهم وثبوا بنصر فقتلوه ، قتله رجل منهم يقال له الذئب بن القائم ، وسار برأسه إلى المكتفي متقربا بذلك ، مستأمنا ، فأجيب إلى ذلك ، وأجيز بجائزة سنية ، وأمر بالكف عن قومه .

[ ص: 551 ] واقتتلت القرامطة بعد نصر حتى صارت بينهم الدماء ، وسارت فرقة كرهت أمورهم إلى بني أسد بنواحي عين التمر ، واعتذروا إلى الخليفة ، فقبل عذرهم ، وبقي على الماءين بقيتهم ممن له بصيرة في دينه ، فكتب الخليفة إلى ابن حمدان يأمره بمعاودتهم ، واجتثاث أصلهم ، فأرسل إليهم زكرويه بن مهرويه داعية له يسمى القاسم بن أحمد ، ويعرف بأبي محمد ، وأعلمهم أن فعل الذئب قد نفره منهم ، وأنهم قد ارتدوا عن الدين ، وأن وقت ظهورهم قد حضر ، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ، وأن يوم موعدهم الذي ذكره الله في شأن موسى صلى الله عليه وسلم وعدوه فرعون إذ قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ، ويأمرهم أن يفوا أمرهم ، وأن يسيروا حتى يصبحوا الكوفة يوم النحر سنة ثلاث وتسعين ومائتين ، فإنهم لا يمنعون منها ، وأنه يظهر لهم ، وينجز لهم وعده الذي يعدهم إياه ، وأن يحملوا إليه القاسم بن أحمد .

فامتثلوا رأيه ، ووافوا باب الكوفة وقد انصرف الناس عن مصلاهم ، وعاملهم إسحاق بن عمران ، ووصلوها في ثمانمائة فارس عليهم الدروع ، والجواشن ، والآلات الحسنة ، وقد ضربوا على القاسم بن أحمد قبة ، وقالوا هذا أثر رسول الله ، ونادوا : يا لثارات الحسين ، يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب ببغداذ ، وشعارهم : يا أحمد ، يا محمد ، يعنون ابني زكرويه المقتولين ، فأظهروا الأعلام البيض ، وأرادوا استمالة رعاع الناس بالكوفة بذلك ، فلم يمل إليهم أحد ، فأوقع القرامطة بمن لحقوه من أهل الكوفة ، وقتلوا نحوا من عشرين نفسا .

وبادر الناس الكوفة ، وأخذوا السلاح ، ونهض بهم إسحاق ، ودخل مدينة الكوفة من القرامطة مائة فارس ، فقتل منهم عشرون نفسا ، وأخرجوا عنها ، وظهر إسحاق ، وحاربهم إلى العصر ، ثم انصرفوا نحو القادسية ، وكان فيمن يقاتلهم مع إسحاق جماعة من الطالبية .

وكتب إسحاق إلى الخليفة يستمده ، فأمده بجماعة من قواده ، منهم : وصيف بن صوارتكين التركي ، والفضل بن موسى بن بغا ، وبشر الخادم الأفشيني ، ورائق الخزري ، مولى أمير المؤمنين ، وغيرهم من الغلمان الحجرية ، فساروا منتصف

[ ص: 552 ] ذي الحجة حتى قاربوا القادسية فنزلوا بالصوان ، فلقيهم زكرويه .

وأما القرامطة فإنهم أنفذوا واستخرجوا زكرويه من جب في الأرض كان منقطعا فيه سنين كثيرة ، بقرية الدرية ، وكان على الجب باب حديد محكم العمل ، وكان زكرويه إذا خاف الطلب جعل تنورا هناك على باب الجب ، وقامت امرأة تسجره ، فلا يفطن إليه ، وكان ربما أخفي في بيت خلف باب الدار التي كان بها ساكنا ، فإذا انفتح باب الدار انطبق على باب البيت ، فيدخل الداخل الدار فلا يرى شيئا ، فلما استخرجوه حملوه على أيديهم ، وسموه ولي الله ، ولما رأوه سجدوا له ، وحضر معه جماعة من دعاته وخاصته ، وأعلمهم أن القاسم بن أحمد ( من ) أعظم الناس عليهم ذمة ومنة ، وأنه ردهم إلى الدين بعد خروجهم عنه ، وأنهم إن امتثلوا أوامره أنجز موعدهم ، وبلغوا آمالهم ، ورمز لهم رموزا ذكر فيها آيات من القرآن نقلها عن الوجه الذي أنزلت فيه ، فاعترف له من رسخ حب الكفر في قلبه أنه رئيسهم وكهفهم ، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل .

وسار بهم وهو محجوب يدعونه السيد ولا يبرزونه ، والقاسم يتولى الأمور ، وأعلمهم أن أهل السواد قاطبة خارجون إليه ، فأقام بسقي الفرات عدة أيام ، فلم يصل إليه منهم إلا خمسمائة رجل ، ثم وافته الجنود المذكورة من عند الخليفة ، فلقيهم زكرويه بالصوان ، وقاتلهم واشتدت الحرب بينهم ، وكانت الهزيمة أول النهار على القرامطة وكان زكرويه قد كمن لهم كمينا من خلفهم ، فلم يشعر أصحاب الخليفة إلا والسيف فيهم من ورائهم ، فانهزموا أقبح هزيمة ، ووضع القرامطة السيف فيهم ، فقتلوهم كيف شاءوا ، وغنموا سوادهم ، ولم يسلم من أصحاب الخليفة إلا من دابته قوية ، أو من أثخن بالجراح ، فوضع نفسه بين القتلى ، فتحاملوا بعد ذلك .

وأخذ للخليفة في هذا العسكر أكثر من ثلاثمائة جمازة عليها المال والسلاح ، وخمسمائة بغل ، وقتل من أصحاب الخليفة ، سوى الغلمان ، ألف وخمسمائة رجل ، وقوي القرامطة بما غنموا .

[ ص: 553 ] ولما ورد خبر هذه الوقعة إلى بغداذ أعظمها الخليفة والناس ، وندب إلى القرامطة محمد بن إسحاق بن كنداج ، وضم إليه من الأعراب بني شيبان وغيرهم أكثر من ألفي رجل ، وأعطاهم الأرزاق ، ورحل زكرويه من مكانه إلى نهر المثنية لنتن القتلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية