الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وأما الثاني; فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها ، ولا محيص له عنها ، يقوم فيها بحق ربه تعالى ، فإذا أوغل في علم شاق; فربما قطعه عن غيره ، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به ، فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به; فيقصر فيه ، فيكون بذلك ملوما غير معذور; إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ، ولا بحال من أحواله فيها .

              ذكر البخاري عن أبي جحيفة; قال : آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء - وهي زوجه - متبذلة; فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا . فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما ، فقال له : كل فإني صائم . فقال : ما أنا بآكل حتى [ ص: 248 ] تأكل; فأكل . فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام . ثم ذهب ليقوم ، فقال : نم . فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن . فصلينا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر له ذلك; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صدق سلمان .

              وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : أفتان أنت ، أو أفاتن أنت ؟ ( ثلاث مرات ) ، فلولا صليت ب سبح اسم ربك الأعلى [ الأعلى : 1 ] ، والشمس وضحاها [ الشمس : 1 ] ، و والليل إذا يغشى [ الليل : 1 ] ، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ، وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل ، فوافق معاذا يصلي ، فترك ناضحيه ، وأقبل إلى معاذ ، فقرأ سورة البقرة والنساء; فانطلق الرجل . انظره في البخاري .

              وكذلك حديث : إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي الحديث .

              [ ص: 249 ] ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين ، فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة صلاة الصبح في الجماعة لإطالته الصلاة من الليل .

              وأيضا; فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ، ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام : كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى .

              وقيل لابن مسعود رضي الله عنه : وإنك لتقل الصوم . فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي منه .

              [ ص: 250 ] ونحو هذا ما حكى عياض عن ابن وهب أنه آلى أن يصوم يوم عرفة أبدا; لأنه كان في الموقف يوما صائما ، وكان شديد الحر فاشتد عليه . قال : فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار .

              وكره مالك إحياء الليل كله وقال : لعله يصبح مغلوبا ، وفي رسول الله أسوة . ثم قال : " لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح ، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم; فلا ، وإن كان وهو به فتور أو كسل; فلا بأس به " .

              فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل ، وأنه يسبب تعطيل وظائف ، كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة ، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة ، نهي عن ذلك ، وإن لم يكن شيء من ذلك; فالإيغال فيه حسن ، وسبب القيام [ ص: 251 ] بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة .

              فإن قيل : دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه ، وإن كان له وازع الخوف ، أو حادي الرجاء ، أو حامل المحبة ، لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات ، ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل ، صائما النهار ، واطئا أهله ، إلى أشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال ، أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها ، وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد ، وإغاثة اللهفان ، وقضاء حوائج الناس ، وغير ذلك من الأعمال ، بل كثير منها تضاد أعمالا أخر بحيث لا يمكن الاجتماع فيها ، وقد لا تضادها ، ولكن تؤثر فيها نقصا ، وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول ، فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه ؟ ولهذا جاء : من يشاد هذا الدين يغلبه .

              وأيضا; فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال ومسقطي الحظوظ; فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها ؟

              فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان :

              أحدهما : أرباب الحظوظ ، وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا ، لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ، ولا يضر بحظوظهم .

              فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا ، وقطع العوائد المباحة قد يوقع في [ ص: 252 ] المحرمات ، وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية; لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملق حكمة الشرع عن نفسه ، وذلك فساد كبير ، ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع ، كما أن ما في السماوات وما في الأرض مسخر للإنسان .

              فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل ، فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ، ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور ، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن ، فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه; كالنكاح مثلا ، وينهى عن المكروه الذي لا حظ فيه عاجلا; كالصلاة في الأوقات المكروهة ، وينظر في المندوب الذي لا حظ له فيه ، وفي المكروه الذي له فيه حظ - أعني : الحظ العاجل - ; فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي لما يكره شرعا ، أو لترك مندوب هو أعظم أجرا; كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى; كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات ، حسب ما نبه عليه حديث : إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته [ ص: 253 ] إلخ .

              وكذلك ترك الصوم يوم عرفة ، أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن .

              [ ص: 254 ] وفي الحديث : إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر أقوى لكم .

              وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه; غلب الجانب الأخف; كما قال الغزالي : إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات ، على التورع عنها مع عدم طاعتهما; فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ ، فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله ، فإن كان في تناولها رضا الوالدين; رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية ، وهو مخالفة الوالدين ، ومثله ما روي عن مالك أن طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس .

              فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال; فيقع الترجيح بينها ، فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه ، وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه .

              [ ص: 255 ] والثاني : أهل إسقاط الحظوظ ، وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح بين الأعمال ، غير أن سقوط حظوظهم لعزوف أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الانقطاع وكراهية الأعمال ، ووفقهم في الترجيح بين الحقوق ، وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم; فصاروا أكثر أعمالا وأوسع مجالا في الخدمة; فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات ، وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة; فمتعذر ، إلا في المنهيات; فإنه ترك بإطلاق ، ونفي أعمال لا إعمال ، والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام ، ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر ; كقوله : إن لنفسك عليك حقا ، وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده ، أو ساقط فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه; فحظه إذا آخر الأشياء المستحقة ، وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها; لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا ، فدخل فيه من الأعمال كثير ، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر; فهو عبادة كما سيأتي; فصار عبادة بعد ما كان عادة ، فهو ساقط من جهته ، ثابت من جهة الأمر; كسائر الطاعات ، ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس ، بل يصير أكثر عمله في الواجبات ، وهنا مجال رحب له موضع غير هذا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية