الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجملة القول : أن الله تعالى أنكر في كتابه على من يقول برأيه وفهمه : هذا حلال وهذا حرام ، وسماه كذابا وسمى اتباعه شركا ، وصح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يحرم على الناس شيئا مما أحل الله تعالى لهم في حديث الثوم والبصل وغيره ، وإنما أحل الله هذين بالنصوص العامة كقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ( 2 : 29 ) وجعله العلماء أصلا من أصول الأحكام فقالوا : الأصل في جميع الأشياء أو المنافع الإباحة .

                          والعمدة في تفسير اتخاذ رجال الدين أربابا بما تقدم في حديث عدي بن حاتم ، وما في معناه من الآثار - هي الآيات التي أشرنا إليها في كون التحريم على العباد إنما هو حق ربهم عليهم ، وكونه تشريعا دينيا ، وإنما شارع الدين هو الله تعالى ، فإذا نيط التشريع الديني بغيره تعالى كان ذلك إشراكا بنص قوله تعالى : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ( 42 : 21 ) وقد فصلنا هذا في مواضعه الخاصة به .

                          فليتق الله تعالى من يظنون بجهلهم أن جرأتهم على تحريم ما لم يحرمه الله تعالى على عباده من كمال الدين وقوة اليقين ، سواء حرموا ما حرموا بآرائهم وأهوائهم ، أو بقياس في غير محله ، مع كونهم من غير أهله ، أو بالنقل عن بعض مؤلفي الكتب الميتين وإن كبرت ألقابهم ، وكذا إن كان أخذا من نص شرعي لا يدل عليه دلالة قطعية ، على ما تقدم بيانه في الخمر والميسر ، وليتق الله من يضعون للناس الأوراد والأحزاب الكثيرة ، ويجعلونها لهم كشعائر الدين المنصوصة بحملهم عليها في الاجتماعات ، واشتراكهم فيها برفع الأصوات ، أو توقيتها لهم كالصلوات ، فكل ذلك حق لله تعالى وحده ، ولم يكن عند أكمل البشر في الدين [ ص: 326 ] من أهل القرون الأولى شيء من ذلك . ووالله إن المأثور في كتاب الله وسنة رسوله من الأذكار والدعوات ، خير من حزب فلان وورد فلان وأمثال دلائل الخيرات ، وما هي بقليل ، فليراجعوها في كتب الأذكار للمحدثين كأذكار النووي ، وكتاب الحصن الحصين للجزري ، ففيهما ما يكفيهم من الأذكار والأدعية المطلقة المقيدة بالعبادات المختلفة ، وبالأزمنة والأمكنة وحدود الحوادث .

                          ( قد يقول ) نصير للبدعة ، خذول للسنة : إن هذه الأوراد والأحزاب والصلوات التي وضعها شيوخ الطريقة العارفين ، وكبار العلماء العاملين ، من البدع الحسنة التي جربت فائدتها ، وثبتت منفعتها بمواظبة الألوف من المسلمين عليها ، وخشوعهم بتلاوتها ، دون غيرها من الصلوات والأذكار والأدعية المأثورة فكيف يصح لأحد أن يأفكهم عنها ؟ .

                          ( وأقول ) إن كاتب هذا ممن جربوها بإخلاص وحسن اعتقاد ، وكان يبكي لقراءة ورد السحر ، ولا يبكي لتلاوة القرآن ، ثم رفعه الله تعالى بعلم الكتاب والسنة فعلم أن ذلك كان من الجهل وضعف الإيمان ، وأنه عين ما وقع لمن قبلنا من العباد والرهبان . وإننا نكشف الغطاء عن هذه الشبهة القوية ، التي قد تعد عذرا لجاهل ما ذكرنا من الآيات القرآنية ، وسيرة السلف الصالح المرضية ، دون من تقوم عليه حجة العلم ، ونكتفي في ذلك ببيان الحقائق الآتية :

                          ( 1 ) إن الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلم بما يرضيه عز وجل من عبادته وما يتزكى به عابدوه منها ، ولا يبيح الإيمان لأحد من أهله أن يقول أو يعتقد أن أحدا من شيوخ الطريق والأولياء يساوي علمه علم الله تعالى أو علم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . دع الظن بأنهم يعلمون ما لا يعلم الله ورسوله أو فوق ما يعلمون من ذلك ، فإنه أصرح في الكفر بقدر ما تدل عليه صيغة ( أفعل ) في الموضوع .

                          ( 2 ) إنه تعالى يقول : اليوم أكملت لكم دينكم ( 5 : 3 ) فكل من يزيد في الإسلام عبادة أو شعارا من شعائر الدين فهو منكر لكماله مدع لإتمامه ، وأنه أكمل في الدين من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله وصحبه ، ولله در الإمام مالك القائل : " من زعم أنه يأتي في هذا الدين بما لم يأت به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد زعم أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خان الرسالة " والقائل : " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " .

                          ( 3 ) إنه تعالى يقول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ( 7 : 3 ) وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول على المنبر وغير المنبر : وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وقد بين العلماء المحققون أن هذه القضية الكلية عامة في الأمور الدينية المحضة كالعبادات ، كما تقدم مرارا ، وأن البدعة التي تنقسم إلى حسنة وسيئة هي البدعة [ ص: 327 ] اللغوية التي موضوعها المصالح العامة من دينية ودنيوية ، كوسائل الجهاد وتأليف الكتب وبناء المدارس والمستشفيات وتنوير المساجد .

                          إن قيل : إن هذه الزيادة التي أتى بها الصالحون هي من المشروع بإطلاقات الكتاب والسنة العامة كقوله تعالى : اذكروا الله ذكرا كثيرا ( 33 : 41 ) وقوله : صلوا عليه وسلموا تسليما ( 33 : 56 ) فلا تنافي ما تقدم - قلنا :

                          ( 4 ) إن حقيقة الاتباع المأمور به أن يلتزم إطلاق ما أطلقته نصوص الكتاب والسنة ، وتقييد ما قيدته ؛ ولذلك قال الفقهاء : " وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان " - وهذه عبارة المنهاج - وما ذلك إلا أنهما قيدتا بعدد معين ، وكيفية مخصوصة ، وزمن مخصوص وهذا حق الشارع لا المكلف - وإلا فهما من الصلاة التي هي أفضل العبادات ، وقد فصل هذا الموضوع الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام .

                          ( 5 ) إن الزيادة على المشروع في العبادة كالنقص منه ، وإن التكلف والمبالغة في المشروع منها غلو في الدين ، وهو مذموم شرعا بالإجماع ، وصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النهي عنه ، والأمر بالمستطاع منه .

                          ( 6 ) إن الزيادة لا يتحقق كونها زيادة إلا مع الإتيان بالأصل ، فمن ترك شيئا من المأثور المشروع ، وأتى بشيء من هذه العبادات المبتدعة فهو مفضل له على ما شرعه الله تعالى أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكفى بذلك ضلالا واتباعا للهوى ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يأتي بشيء منها إلا بعد إتيانه بجميع ما صح في الكتاب والسنة في ذلك ، وأكثر المتعبدين بهذه الأوراد والأحزاب لا يعنون بحفظ المأثور ولا يعلمونه ، إلا قليلا من المشهور بين العامة كالوارد عقب الصلوات ، وهم يبتدعون فيه بالاجتماع له ، ورفع الصوت به كما بينه الشاطبي وسماه البدعة الإضافية ، ورد بحق على من تساهل فيه من المتفقهة .

                          ( 7 ) إن هذه الأوراد والأحزاب لا يخلو شيء منها فيما اطلعنا عليه من أمور منكرة في الشرع ، وأمور لا يجوز فعلها إلا بتوقيف منه ، كوصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ، ولا وصفه به رسوله أو القسم عليه بخلقه ، أو بحقوقهم عليه بدون إذنه ، أو القسم بغيره ، وقد سماه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شركا ، وكذا وصف رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لا يصح وصفه به ، وإسناد أفعال إليه لم تصح بها رواية ، وكذا الغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه ، بما لا يليق إلا بربه وخالقه وخالق كل شيء ، ومنه ما هو كفر صريح . ولبعض الدجالين المعاصرين صلوات وأوراد فيها من هذه المنكرات ما لا يوجد في غيرها من أمثالها ، والذين يعرفون سيرة هؤلاء الدجالين يعلمون أنهم وضعوها للتجارة بالدين [ ص: 328 ] واكتساب المال والجاه عند العوام ، ولا تنس ما نقلناه آنفا من تفسيري مفاتيح الغيب وفتح البيان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ( 24 : 40 ) .

                          ( 8 ) إذا بحث العالم البصير عن سبب عناية كثير من العوام بهذه الأوراد والأحزاب والصلوات المبتدعة ، وإيثارها على التعبد بالقرآن المجيد وبالأذكار والأدعية المأثورة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع إيمانهم بأن تلاوة القرآن وأذكاره وأدعيته أفضل من كل شيء ، وأن ما ثبت في السنة هو الذي يليها في الفضيلة ، وفي كون كل منها حقا في درجته - لا يجد بعد دقة البحث إلا ما أرشدت إليه الآية الكريمة من شرك أهل الكتاب باتخاذ رؤسائهم أربابا من دون الله ، بإعطائهم حق التشريع للعبادات والتحليل والتحريم غلوا في تعظيمهم ، ومضاهأة مبتدعة المسلمين لها في ذلك كما ضاهئوا هم من قبلهم من الوثنيين ، كما أنبأ عن ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله المروي في الصحيحين وغيرهما : لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " ؟ وما قص الله علينا ما قص من كفرهم إلا تحذيرا لنا من مثله .

                          فأنت إذا بحثت عن عبادات هؤلاء النصارى من جميع الفرق تجد في أيديهم أورادا وأحزابا كثيرة منظومة ومنثورة كلها من وضع رؤسائهم ، ولكنها ممزوجة بشيء من كتب أنبيائهم كصيغة " الصلاة الربانية " وبعض عبارات المزامير عند النصارى . وأنى لأهل الكتاب بسور كسور القرآن أو بأدعية وأذكار نبوية كالأذكار والأدعية المحمدية في وصف جلال الله وعظمته وأسمائه الحسنى . وطلب أفضل ما يطلب منه تعالى من خير الآخرة والدنيا ؟ وهل كان أهل العصر الأول من المسلمين سادة للأمم كلها في فتوحهم وأحكامهم إلا بهداية الكتاب والسنة ؟ وهل صارت الشعوب تدخل في دين الله أفواجا إلا اهتداء بهم ؟ ثم هل [ ص: 329 ] صارت الشعوب الإسلامية بعد ذلك إلى ما صارت إليه من الذل والصغار ، وتنفير الأمم عن الإسلام ، إلا بترك هدايتهما إلى البدع أو الإلحاد ؟ ومن يضلل الله فما له من هاد والغلاة المبتدعون لهذه الأوراد والصلوات يخدعون العوام بما يمزجونه فيها من الآيات مع تحريفهم لها عن مواضعها التي نزلت فيها أو لأجلها ، ومن الأحاديث وكلام الأئمة والصالحين ، ومنها ما هو كذب صراح ، وما ليس له سند يعتد به ، ويردون على دعاة الكتاب والسنة بأنهم لا يعظمون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو يكرهون تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه - ; لأنهم يقفون فيه عند الحد الشرعي - وبأنهم يكرهون الأولياء وينكرون مكاشفاتهم وكراماتهم ، والعوام يقبلون هذا منهم لجهلهم بعقيدة الإسلام ، وبإجماع المسلمين على أنه لا يحتج بقول أحد معين ، ولا بفعله في دين الله تعالى إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا الشيعة الإمامية ، فإنهم يقولون بعصمة 12 رجلا من آل البيت ـ رضي الله عنهم ـ أيضا .

                          وقد أرسل رجل من دجالي عصرنا صلواته وبعض كتبه مع بعض الحجاج الصالحين إلى المدينة المنورة ; لتوزيعها فيها على نفقة بعض الأغنياء الأغبياء ، فرأى ذلك الحاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نومه قبل دخول المدينة بليلة يأمره بألا يدخل تلك الكتب في مدينته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدفنها في ذلك المكان ، ثم أخبر صاحبها بما رأى بعد عودته على مسمع من الناس فبهت الدجال .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية