الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فروع تتعلق بهذه المسألة

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الأول : اعلم أن من تزوج امرأة يظنها عفيفة ، ثم زنت وهي في عصمته أن أظهر القولين : أنه نكاح لا يفسخ ، ولا يحرم عليه الدوام على نكاحها ، وقد قال بهذا بعض من منع نكاح الزانية مفرقا بين الدوام على نكاحها ، وبين ابتدائه ، واستدل من قال هذا بحديث عمرو بن الأحوص الجشمي - رضي الله عنه - أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله ، وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال " : استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشوكاني في حديث عمرو بن الأحوص هذا : أخرجه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عمرو بن الأحوص المذكور : وحديثه في الخطبة صحيح ، اهـ ، وحديثه في الخطبة هو هذا الحديث ، بدليل قوله : فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، وهذا التذكير والوعظ هو الخطبة ; كما هو معروف .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأدلة على هذا الحديث المتقدم قريبا الذي فيه : أن الرجل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، فقال " : طلقها " ، فقال : نفسي تتبعها ، فقال " : أمسكها " ، وبينا الكلام في سنده ، وأنه في الدوام على النكاح ، لا في ابتداء النكاح ، وأن بينهما فرقا ، وبه تعلم أن قول من قال : إن من زنت زوجته فسخ نكاحها وحرمت عليه خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثاني : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي ، أنه لا يجوز نكاح المرأة الحامل من الزنا قبل وضع حملها بل لا يجوز نكاحها ، حتى تضع حملها ، خلافا لجماعة من أهل العلم ، قالوا : يجوز نكاحها وهي حامل ، وهو مروي عن الشافعي وغيره ، وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن نكاح الرجل امرأة حاملا من غيره فيه سقي الزرع بماء الغير ، وهو لا يجوز ، ويدل لذلك قوله تعالى :وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] ، ولا يخرج من عموم هذه الآية إلا ما أخرجه دليل يجب الرجوع إليه ، فلا يجوز نكاح حامل [ ص: 427 ] حتى ينتهي أجل عدتها ، وقد صرح الله بأن الحوامل أجلهن أن يضعن حملهن ، فيجب استصحاب هذا العموم ، ولا يخرج منه إلا ما أخرجه دليل من كتاب أو سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا وندما على ما كان منهما ونويا أن لا يعودا إلى الذنب ، فإن نكاحهما جائز ، فيجوز له أن ينكحها بعد توبتهما ، ويجوز نكاح غيرهما لهما بعد التوبة ; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ويدل لهذا قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [ 25 \ 68 - 70 ] ، فقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية أن الذين يزنون ، ومن ذكر معهم إن تابوا وآمنوا ، وعملوا عملا صالحا يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وهو يدل على أن التوبة من الزنا تذهب أثره ، فالذين قالوا : إن من زنا بامرأة لا تحل له مطلقا ، ولو تابا وأصلحا فقولهم خلاف التحقيق ، وقد وردت آثار عن الصحابة بجواز تزويجه بمن زنى بها إن تابا ، وضرب له بعض الصحابة مثلا برجل سرق شيئا من بستان رجل آخر ، ثم بعد ذلك اشترى البستان فالذي سرقه منه حرام عليه ، والذي اشتراه منه حلال له ، فكذلك ما نال من المرأة حراما فهو حرام عليه ، وما نال منها بعد التوبة والتزويج حلال له ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن قول من رد الاستدلال بآية : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية [ 25 \ 68 ] ، قائلا : إنها نزلت في الكفار لا في المسلمين ، يرد قوله : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما أوضحنا أدلته من السنة الصحيحة مرارا ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الرابع : اعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية ، لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثا ; لأنه إنما يتزوجها ليحفظها ، ويحرسها ، ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعا باتا بأن يراقبها دائما ، وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها ، وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها ، مع شدة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة ، وإن جرى منها شيء لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شيء عليه فيه ، ولا يكون به ديوثا ، كما هو معلوم ، وقد علمت مما مر أن أكثر أهل العلم على جواز نكاح العفيف الزانية كعكسه ، وأن جماعة قالوا بمنع ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 428 ] والأظهر لنا في هذه المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوج إلا عفيفة صينة ، للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيده حديث " : فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، والعلم عند الله تعالى ،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية