الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده، وما سواه محدث، وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء، كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطرارا وجبلا، وكذلك لما اضطرهم في الذر، وخاطبهم كفاحا في غير زمان التكليف، لم يجز أن يكون ذلك بكسب، فلما أرسل رسله، وأنزل كتبه، وتعرف على ألسنة السفراء، لم يصح أن يكون ذلك جبرا ولا ضرورة فيسقط [ ص: 520 ] التكليف، ولا يكون ذلك موقع الحكمة، ولا ثبوت حجة: وما ربك بظلام للعبيد [سورة فصلت:46]، وهو الفعال لما يريد، ذو الحكمة البالغة، والعدل الشامل، والفضل الذي يختص به، فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته، من حيث يعرف، ومن حيث توحيده، ومن حيث وصف ووقف، ومن حيث المزيد، من حيث استعمل ووفق، واختص وتفضل، فلكل معرفة مقام، ولكل مقام حكم، فعم بالأول، وأفرد بالثاني، واختص بالثالث من مقامات المعارف، فمعارف البلغاء بالإصابة، ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام، ومعرفة الفقه للعلماء، والحديث للرواة، والفراسة للحكماء، والمزيد للأنبياء والأولياء، مع مشاركتهم للغير في المعارف، لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا، فلما استوى الكل في كونهم أحداثا مربوبين، استووا في تلك المعرفة، ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص، تباينوا وتفاوتوا في المعارف، وما يعقل ذلك إلا عارف، ولا ينكره إلا جاهل، فوصل الكل إلى معرفة الربوبية، ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد، وهو أن يعرف الله حق معرفته.

قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره [سورة الأنعام:91]. وقد روي: ما عرفوه حق معرفته.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: « لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور، ولزالت بدعائكم الجبال، ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم [ ص: 521 ] الذي ليس بعده جهل، وما وصل أحد إلى ذلك. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله» .

هذا وهو أعرف الخلق بربه، الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة.

وقد كان يقول في مناجاته: « اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة، ومنك رهبة» . وهذا طلب الزيادة في المعرفة، كما أدبه: وقل رب زدني علما [سورة طه:114].

وقد كان الشبلي يقول: (ما عرف الله أحد حقيقة) يعني لو عرفوه حقيقة ما اشتغلوا بسواه.

وكان الواسطي يقول: (كما به كانوا، كذلك به عرفوا) . وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته:


به عرفوه فاهتدوا لرشادهم ... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا



وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في كلامه: «

والله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا

»
الحديث) . [ ص: 522 ]

قال: (فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه، ولو كان الحكم واحدا والمعرفة واحدة لاستووا. وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا، مع تصحيح الآثار، ومذاقات ألفاظ الرجال، فهو أجل أن يجهل، وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف، أو تبلغه بصائر ذوي البصائر: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير [سورة الأنعام:103].

التالي السابق


الخدمات العلمية