الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: (وقد قيل لأبي الحسين النوري: كيف لا تدركه العقول؟ فقال: كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف.

وقال الواسطي: كما قامت الأشياء به وبه فنيت كذلك به عرفوه. وقال الشبلي: الحق لا يعرف بسواه. وقال النباجي: طوبى لأهل المعرفة، عرفهم نفسه قبل أن عرفوه) .

قال: (صدق أئمة الدين، وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي، وهو الهادي إلى معرفته، والمتعرف بنفسه إلى بريته، إذ ضلت العقول والفهوم، والعلوم والأوهام، في تيه التيه أن تتوهمه، والأفكار والأضمار أن تدركه، لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل [ ص: 527 ] حيث وتقدير، وعجز عن توهمه كل فكر وضمير، وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغا فرجعت كليلة، ورجع الوهم خاسئا وهو حسير) .

إلى أن قال: (بل هو المعروف بما تعرف، والموصوف كما وصف، فتعرف إلينا بربوبيته، ووصف لنا توحيده ووحدانيته، وأقسم على ذلك بقوله تعالى: والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد [سورة الصافات:1-4]، وهو الصادق في خبره وشهادته، إذ هو الواحد في الحقيقة، الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع، وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء، فأوقفتنا السفراء على توحيده، الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطابه، فالأصل منه ثم من السفراء. لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم [سورة آل عمران:164]، وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة، والعلم الذي هو الحجة، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول، ليكون أقوى في البرهان، وأبلغ في البيان.

قال سبحانه: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [سورة المؤمنون:91]، فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا، وصدق الله في خبره وصدقت الرسل) . [ ص: 528 ]

وتكلم على هذه الآية، وعلى قوله: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [سورة الأنبياء:22]، بما يناسب ذلك، إلى أن قال: (قال سبحانه: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء [سورة الروم:28].

وقال سبحانه: ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل [سورة الزمر:29].

وقال: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا [سورة النحل:75]، مثلا لمن عبد غيره، إذ ضرب العبد مثلا لمن عبد من دونه، لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك، لا يقدر على شيء: لا نفعا ولا ضرا، ولا خلقا ولا أمرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. ومن رزقناه: جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته، لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سرا وجهرا، فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء، مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون، فعز من لم يشارك في قدرته، وجل من لم يرام في وحدانيته، وتعظم من تفرد بالربوبية، فجل أن يكون له شريك في خلقه) .

إلى أن قال: (فخلقهم على الفطرة، وبعث إليهم السفراء، وعلمهم العلم، وركب فيهم العقل بالفكر. فبالفطرة عرفوه، وبالوسائل عبدوه، فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته، ولولا إرسال الرسول مع ما [ ص: 529 ] خاطبنا به، ووقفنا عليه، ووفقنا له، ومن علينا به، وكتب في قلوبنا، واختصنا - ما عرفنا توحيده، ولا كيف نطيعه.

ولولا ما ظهرت من الآيات والمعجزات، التي أظهرها على أيدي الرسل، بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، لم نعرف رسله.

ولولا زوائد الأعمال، وتصحيح الأحوال، والعلوم والفهوم والمعارف، وأسرار مقامات القوم، وحلاوة أذواقهم، والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد.

وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته، واعترف له بنعمه، وإخراجه من العدم إلى الوجود، ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها، وكمال صورته، وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده، فصدق رسوله، وحقق ما سلف من عهده، ورجع إلى ضرورته، واعترف بوحدانيته، فأبطل ما سواه، ولم ير إلها إلا إياه، ولكن لما جهل النعمة. وزاغ عن العهد، ونكث في إقراره، وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن، وأفضل النعم: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [سورة الصف:5]، فتركه مع هواه، فكان هلاكه في مناه، وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه، وشكرها قبول ما جاء به الرسول: قول، وعمل، وإخلاص نية، وإصابة سنة، ولزوم [ ص: 530 ] قدوة، وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة، فكلما نصح في مزيد، رفع إلى مزيد.

قال سبحانه: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [سورة إبراهيم:7].

قلت: ويستدل على ما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مستلزم له ليكون دليلا عليه. وهذه هي الآية والعلامة. وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له، وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم، وبأن هذا ملزوم له.

ولهذا قيل: إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة، لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه، فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، حتى تعرف دلالته عليه، فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه، بخلاف المعنى المركب، فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين، فنعرف أنه إذا قيل: قام فلان، أنه فعل القيام القائم به. فإذا قيل: زيد، عرف أنه فعل القيام القائم به، بخلاف مسمى زيد، وأنه لا يعرف [ ص: 531 ] أن زيدا يدل على مسماه، حتى يعرف أولا مسمى زيد، فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور.

وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد. فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذا عرف أنه مستلزم له، وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه، فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل، وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه، فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور، بل يكون ذلك المعين متصورا قبل هذا، وتلك الأمور مستلزمة له، وآيات عليه، فكلما تصورت تصور المدلول عليه، فيكون كما قال: تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [سورة ق:8]، تبصرة: إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولا، فإذا رأى آياته المستلزمة لوجوده، كان ذلك تبصرة من ذلك الطيف.

كما قال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [سورة الأعراف:202]، وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكره بالله، فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل، وتذكرة لما قد يحصل من غفلة، وإن كان أصل المعرفة فطريا حصل في النفس بلا واسطة ألبتة. [ ص: 532 ]

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان: أقيسة، وآيات. فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي، لا تدل على معنى معين.

فإذا قيل: هذا محدث. وكل محدث فله محدث قديم. أو: كل ممكن فلا بد له من واجب، فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه، لا يدل على عينه، بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه. فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة، فإنه لم تعرف عينه، فلا بد أن تعرف عينه بغير هذه الطريق، والآيات تدل على عينه، لكن كون الآية دليلا على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل، إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها.

فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه، بحيث يميز بينه وبين ما سواه، كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره، ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل، فلا بد أن يكون مشعورا به قبل هذا، حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله.

وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوبا لها. وإذا كان مطلوبا لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء، حتى يعلم أنه يلزم من تحقق [ ص: 533 ] الدليل تحققه. وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوبا بالحد، وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعورا به من بعض الوجوه، فيطلب الشعور به من وجه آخر.

ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفا بالمحدود، إن لم يعرف أن الحد مطابق له، وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود، وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد.

وكذلك الدليل القياسي. إذا قيل: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة. وإذا كان آية على شيء معين. مثل كون الكوكب الفلاني، كالجدي مثلا، علامة على جهة الكعبة، فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال، وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب، فإذا رأى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله. ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي، والمدلول عليه وهو جهة الكعبة، لم يمكنه الاستدلال. لكنه عرف أولا الدليل والمدلول عليه، ثم خفي عليه المدلول، وهو جهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع، فلما رأى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به، كمن سمع مناديا ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه، وقد أضل مكانه، فإذا سمع الاسم استدل به على المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا، ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية