الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) .

( وكم ) : هي خبرية ، ومعناها هنا : التكثير ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ( لا تغني ) ; والغنى : جلب النفع ودفع الضر ، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى . وكم لفظها مفرد ، ومعناها جمع . وقرأ الجمهور : ( شفاعتهم ) ، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير ; وزيد بن علي : شفاعته ، بإفراد الشفاعة والضمير ; وابن مقسم : شفاعاتهم ، بجمعهما ، وهو اختيار صاحب الكامل ، أي القاسم الهذلي . وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر ، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد ، لم تغن شفاعتهم عنه شيئا . فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه ، أي يرضاه أهلا للشفاعة ، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها ؟ ومعنى تسمية الأنثى ) : كونهم يقولون إنهم بنات الله ، ( والذين لا يؤمنون بالآخرة ) : هم العرب منكرو البعث . ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) : أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن ، وإنما يدرك بالعلم واليقين . قيل : ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى ، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون ، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق .

( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ) ، موادعة [ ص: 164 ] منسوخة بآية السيف . ( ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) : أي لم تتعلق إرادته بغيرها ، فليس له فكر في سواها ، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة . والذكر هنا : القرآن ، أو الإيمان ، أو الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أقوال . ( عن من تولى عن ذكرنا ) : هو سبب الإعراض ، لأن من لا يصغي إلى قول كيف يفهم معناه ؟ فأمر ، صلى الله عليه وسلم ، بالإعراض عن من هذه حاله ، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر ، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا . فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم ، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر ، وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها . ( مبلغهم ) : غايتهم ومنتهاهم من العلم ، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا ، كالفلاحة والصنائع ، لقوله تعالى : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) . ولما ذكر ما هم عليه ، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما . وقال الزمخشري : وقوله : ( ذلك مبلغهم من العلم ) : اعتراض . انتهى ، وكأنه يقول : هو اعتراض بين ( فأعرض ) وبين ( إن ربك ) ، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض . وقيل : ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله . وقال الفراء : صغر رأيهم وسفه أحلامهم ، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة . وقيل : ذلك إشارة إلى الظن ، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن . وقوله : ( إن ربك هو أعلم ) في معرض التسلية ، إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم ، وفي ذلك وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين .

( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) : أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى ، يتصرف فيهما بما شاء . واللام في ( ليجزي ) متعلقة بما دل عليه معنى الملك ، أي يضل ويهدي ليجزي . وقيل : بقوله : ( بمن ضل ) ، و ( بمن اهتدى ) ، واللام للصيرورة ، والمعنى : إن عاقبة أمرهم جميعا للجزاء بما عملوا ، أي بعقاب ما عملوا ، والحسنى : الجنة . وقيل : التقدير بالأعمال الحسنى ، وحين ذكر جزاء المسيء قال : بما عملوا ، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل ، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن ، كقوله تعالى : ( ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ) ، والأحسن تأنيث الحسنى . وقرأ زيد بن علي : لنجزي ونجزي بالنون فيهما .

وتقدم الكلام في الكبائر في قوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) في سورة النساء . والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، " والفواحش " معطوف على كبائر ، وهي ما فحش من الكبائر ، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها . وقال الزمخشري : والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ( إلا اللمم ) : استثناء منقطع ، لأنه لم يدخل تحت ما قبله ، وهو صغار الذنوب ، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم ، كقوله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله ) ، أي غير الله ( لفسدتا ) . وقيل : يصح أن يكون استثناء متصلا ، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو ، وقد اختلفوا فيه اختلافا ، فقال الخدري : هو النظرة والغمزة والقبلة . وقال السدي : الخطرة من الذنب . وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حدا ولا عذابا . وقال ابن عباس أيضا وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام .

وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) . وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور . وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه . وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود . وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب . وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع . وقيل : نظرة الفجأة . ( إن ربك واسع المغفرة ) ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر . وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة . انتهى ، [ ص: 165 ] وفيه نزغة الاعتزال .

( هو أعلم بكم ) : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله . وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل . وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها . كأن مكيا راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : ( إذ أنشأكم من الأرض ) ، والظاهر أن المراد بـ أنشأكم : أنشأ أصلكم وهو آدم . ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، ( فلا تزكوا أنفسكم ) : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم .

وكثيرا ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل . وترى لبعضه في جبينه سوادا يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مرارا ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئا بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية . وبعضهم يقول في حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الوسواس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها . وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضا تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع . وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة .

والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولدا أو سقطا . وقوله : ( في بطون أمهاتكم ) تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجن ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر . ( بمن اتقى ) : قيل الشرك . وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية .

التالي السابق


الخدمات العلمية