الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة :

" وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعا إحداهن بالتراب " .

أما الكلب والخنزير فلا يختلف المذهب في نجاستهما وفي وجوب غسل الإناء من نجاستهما سبعا إحداهن بالتراب لما روى أبو هريرة أن رسول [ ص: 86 ] الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا " رواه الجماعة ، ولمسلم : " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب " ، ولمسلم أيضا : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار " .

فلما أمر بإراقة الإناء وسمي الغسل طهورا دل على النجاسة ؛ إذ الطهارة الواجبة في عين البدن لا تكون إلا عن نجاسة ، وعنه : أنه يجب غسلها ثمانيا لما روى عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب " رواه مسلم وغيره ، والصحيح أنه عد التراب ثامنة وإن لم تكن غسلة كما قال تعالى : ( ثلاثة رابعهم كلبهم ) يحقق ذلك أن أهل اللغة قالوا : إذا كان اسم فاعل على العدد من غير جنس المفعول يجعله زائدا كما قال الله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) ، وإن كان من جنسه جعله أحدهم لقوله ( ثاني اثنين ) ، فلما قال : " سبع مرات " علم أن [ ص: 87 ] التراب سماه ثامنا لأنه من غير الجنس وإلا قال : فاغسلوه ثمانيا وعفروه الثامنة ، كما روى أبو داود في حديث أبي هريرة : " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب " .

وإذا ثبت هذا الحكم في الكلب فالخنزير الذي لا يباح اقتناؤه والانتفاع به أصلا ونص عليه القرآن أولى ، وله أن يستعمل التراب في أي غسله شاء فإن كان المحل يتضرر بالتراب لم يجب استعماله في أصح الوجهين .

ويجزئ موضع التراب الأشنان والصابون ونحوهما في " أقوى الوجوه " .

وقيل : لا يجزئ مطلقا ، وقيل : لا يجزئ إلا عند عدم التراب ، وأما الغسلة الثامنة فلا تجزئ بدل التراب في الأصح ويجب التسبيع ، والتراب في جميع نجاسات الكلب من الريق والعرق والبول وغيرها ، وكذلك في جميع موارد نجاسته التي لا تتضرر بالتراب في المشهور ، وقيل عنه : لا يجب التراب إلا في الإناء خاصة ، وأما سائر الحيوانات فعلى قسمين : أحدهما : ما يؤكل لحمه فهذا طاهر ، وكذلك ما لا يؤكل لحمه لشرفه وهو الإنسان سواء كان مسلما أو كافرا ولا يكره سؤره في ظاهر المذهب وعنه يكره سؤر الكافر .

والثاني ما لا يؤكل لحمه وهو ضربان : أحدهما ما هو طواف علينا كالهر وما دونها في الخلقة مثل الحية والفأرة والعقرب وشبه ذلك ، فهذا لا يكره سؤره إلا ما تولد من النجاسات كدود النجاسة والقروح فإنه يكون نجسا لنجاسة أصله لما روت كبشة بنت كعب بن مالك أنها سكبت وضوءا لأبي قتادة [ ص: 88 ] الأنصاري فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت منه ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " رواه أصحاب السنن ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها " ، رواه أبو داود .

ومما ينبني على ذلك أنه إذا خرجت الهرة أو الفأرة أو الحية من مائع يسير لم تنجسه في المنصوص وقيل تنجسه لملاقاة دبرها ، والأول أصح لأن من عادة الحيوان جمع دبره إذا دخل الماء خوفا من دخوله فيه فلا يتحقق التنجيس ، وإذا أكلت نجاسة ثم ولغت في ماء يسير فقيل طاهر ، وقيل هو نجس إلا أن تغيب غيبة يمكن أنها وردت فيها ماء يطهر فاها ، وقيل : نجس إلا أن تلغوا بعد الأكل بزمن يزول فيه أثر النجاسة بالريق .

[ ص: 89 ] والضرب الثاني من المحرم : ما ليس بطواف وهو نوعان : أحدهما الوحشي وهو سباع البهائم وجوارح الطير وما يأكل الجيف مثل الفهد والنمر والغراب الأبقع والبازي والصقر فهذا نجس في أشهر الروايتين وفي الأخرى هو طاهر لما روى جابر قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر ، قال : " نعم ، وبما أفضلت السباع كلها " ، رواه الشافعي والدارقطني . ولأن الأصل في الأعيان الطهارة ويفارق الكلب بجواز اقتنائه مطلقا وجواز بيعه ، ووجه المشهور حديث ابن عمر المتقدم في القلتين لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب .

ولو كانت أسؤرها طاهرة لم يكن للتحديد فائدة ولا يقال : لعله أراد إذا بالت فيه لأن الغالب أنها إنما ترده للشرب ، والبول فيه نادر ، فلا يجوز حمل اللفظ العام على الصور القليلة ، ثم إنه لم يستفصل ، ولو كان الحكم يختلف لبينه أيضا ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما علل طهارة الهر بأنها من الطوافين علينا علم أن المقتضي لنجاستها قائم وهو كونها محرمة لكن عارضه مشقة الاحتراز منها فطهرت لذلك ؛ لأنه لما علل طهارتها بالطواف وجب التعليل به ، وعند المخالف أنها طهرت لأنها حيوان لا يحرم اقتناؤه وليس للطواف أثر عنده .

[ ص: 90 ] ولأن تحريم الأكل يقتضي كونه خبيثا لقوله تعالى : ( ويحرم عليهم الخبائث ) ويقتضي نجاسته - إلا ما قام عليه الدليل - بدليل الميتة والدم ولحم الخنزير ، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع يؤيد ذلك ، أو لأنه حيوان حرم لا لحرمته ليس بطواف ، فكان نجسا كالكلب والخنزير ، والحديث المتقدم ضعيف لا تقوم به حجة ، والثاني الإنسي وهو البغل والحمار ففيه روايتان وجههما ما تقدم ، ورواية ثالثة أنه مشكوك فيه لتعارض دليل الطهارة والنجاسة فيتوضأ بسؤره ويتيمم ، والطهارة هنا أقوى لأن فيها معنى الطواف وهو أنه لا يمكن الاحتراز منها غالبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية