الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        متى عاد ، ووجبت الكفارة ، ثم طلقها بائنا أو رجعيا ، أو مات أحدهما ، أو فسخ النكاح ، لم تسقط الكفارة . وإذا جدد النكاح ، استمر التحريم إلى أن يكفر ، سواء حكمنا بعود الحنث ، أم لا ، لأن التحريم حصل في النكاح الأول ، وقد قال الله تعالى : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) ولو كانت رقيقة وحصل العود ثم اشتراها ، فهل تحل بملك اليمين قبل التكفير ؟ وجهان . أصحهما : لا .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا وقت الظهار ، فقال : أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو إلى شهر ، أو إلى سنة ، فثلاثة أقوال ، أظهرها : صحته مؤقتا عملا بلفظه ، وتغليبا لشبه اليمين ، والثاني : يصح مؤبدا ، تغليبا لشبه الطلاق . والثالث : أنه لغو ، فإن صححناه مؤبدا ، فالعود فيه كالعود في الظهار المطلق . وإن صححناه مؤقتا ، فوجهان ، أحدهما : العود فيه كالعود في المطلق ، وبه قال [ ص: 274 ] المزني ، وأصحهما وهو ظاهر النص : أنه لا يكون بالإمساك عائدا ، ولا يحصل العود إلا بالوطء في المدة . فعلى هذا لو قال : أنت علي كظهر أمي خمسة أشهر ، فهو مؤل على الأصح ، وقال الشيخ أبو محمد : لا ، لأنه ليس حالفا . وإذا وطئ فمتى يصير عائدا ؟ وجهان ، أصحهما : عند الوطء ، فعلى هذا لا يحرم الوطء ، لكن إذا غابت الحشفة ، لزمه النزع كما سبق في قوله : إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا ، وذكرنا هناك وجها أنه يحرم الوطء . قال الإمام : ولا شك في جريانه هنا . والثاني ، قاله الصيدلاني وغيره : نتبين بالوطء كونه عائدا بالإمساك عقب الظهار ، فعلى هذا يحرم ابتداء الوطء ، كما لو قال : إن وطئتك ، فأنت طالق قبله ، يحرم عليه الوطء . وعلى الوجهين يحرم عليه الوطء بعد ذلك الوطء حتى يكفر أو تمضي مدة الظهار ، فإذا مضت ، حل الوطء لارتفاع الظهار ، وبقيت الكفارة في ذمته ، ولو لم يطأ حتى مضت المدة ، فلا شيء عليه ، وتردد الإمام في أنه لو ظاهر ظهارا مطلقا وعاد ، هل يحصل التحريم بالظهار فقط ، أم به وبالعود ؟ قال : والظاهر الثاني ، لأن الكفارة مرتبة عليهما ، والتحريم مرتب على وجوب الكفارة ، وتظهر فائدة التردد في لمسه وقبلته بغرض عقب الظهار إلى أن يتم زمن لفظ الطلاق ، وإذا حصل العود في الظهار المؤقت على اختلاف الوجهين ، فالواجب كفارة الظهار على الصحيح ، وعليه تتفرع الأحكام المذكورة ، وفي وجه : الواجب كفارة يمين ، وينزل لفظ الظهار منزلة لفظ التحريم . وذكر ابن كج تفريعا عليه أنه يجوز الوطء قبل التكفير .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : أنت علي حرام شهرا أو سنة ونوى تحريم عينها ، أو أطلق ، وقلنا : [ ص: 275 ] مطلقه يوجب كفارة اليمين ، فهل يصح ويوجب كفارة اليمين ، أم يلغو ؟ وجهان حكاهما الإمام ، كالظهار المؤقت ، أصحهما الأول .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        قال لأربع نسوة : أنتن علي كظهر أمي ، صار مظاهرا منهن ، فإن طلقهن ، فلا كفارة ، وإن أمسكهن ، فالجديد : وجوب أربع كفارات ، والقديم : كفارة فقط ، فعلى الجديد : لو امتنع العود في بعضهن بموت أو طلاق ، وجبت الكفارة بعدد من عاد فيهن ، وعلى القديم : تجب الكفارة لو عاد في بعضهن . وفي " التتمة " ، أنها لا تجب في بعضهن ، كما لو حلف لا يكلم جماعة ، فكلم بعضهم . ولو ظاهر منهن بأربع كلمات ، فإن لم يوالها ، لم يخف حكمه ، وإن والاها ، صار بظهار الثانية عائدا في الأولى ، وبظهار الثالثة عائدا في الثانية ، وبظهار الرابعة عائدا في الثالثة ، فإن فارق الرابعة عقب ظهارها ، فعليه ثلاث كفارات ، وإلا فأربع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال لأربع نسوة : أنتن علي حرام ونوى تحريم أعيانهن ، فالقول في تعدد الكفارة واتحادها كما في الظهار ، ذكره الإمام .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كرر لفظ الظهار في امرأة واحدة ، فإن أتى بالألفاظ متوالية ، نظر ، إن أراد بالمرة الثانية وما بعدها التأكيد ، فالجميع ظهار واحد ، فإن أمسكها بعد المرات ، فعليه كفارة ، وإن فارقها ، فوجهان . أحدهما : تلزمه الكفارة لتمكنه من الفراق بدلا من التأكيد ، وأصحهما : لا كفارة ، لأن الكلمات المؤكد بها [ ص: 276 ] كالكلمة الواحدة ، وإن أراد بالمرة الثانية ظهارا آخر ، تعذرت الكفارة على الجديد ، واتحدت على القديم . وقيل : تتعدد قطعا ، فإن عددنا ، ففارق عقب المرة الأخيرة ، فهل يلزمه كفارة الظهار الأول ؟ وجهان . أصحهما : نعم ، لأنه كلام آخر ، بخلاف التأكيد ، وإن أطلق ولم ينو شيئا ، فهل تتحد ، أم تتعدد ؟ قولان ، أظهرهما : الاتحاد ، وقطع به صاحبا " الشامل " و " التتمة " . وأما إذا تفاصلت المرات ، وقصد بكل مرة ، ظهارا ، أو أطلق ، فكل مرة ظهار مستقل له كفارة ، وفي قول ضعيف : لا يكون الثاني ظهارا ما لم يكفر عن الأول ، وإن قال : أردت بالمرة الثانية إعادة الظهار الأول ، فعن القفال : اختلاف جواب في قبوله . قال الإمام : هو مبني على أن المغلب في الظهار شبه اليمين ، أم الطلاق ؟ إن غلبنا الطلاق ، لم يقبل ، وإلا فالظاهر قبوله كما ذكرنا في الإيلاء ، والأصح تغليب شبه الطلاق فيكون الأصح أنه لا يقبل إرادته التأكيد ، وكذا ذكره البغوي وغيره .

                                                                                                                                                                        قلت : نقل صاحب البيان عن البغداديين ، يعني بهم العراقيين ، القطع بأنه لا يقبل ، وجزم صاحب " الحاوي " بالقبول ، والصحيح المنع . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : إن دخلت الدار ، فأنت علي كظهر أمي ، وكرر هذا اللفظ ثلاثا ، فإذا دخلت الدار ، صار مظاهرا ، فإن قصد التأكيد ، لم يجب إلا كفارة وإن قالها في مجالس ، وإن قصد الاستئناف ، تعددت الكفارة ، ويجب الجميع بعود واحد بعد الدخول ، فإن طلقها عقب الدخول ، لم يجب شيء ، وإن أطلق فهل يحمل على التأكيد ، أم الاستئناف ؟ قولان .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        قال : إن لم أتزوج عليك ، فأنت علي كظهر أمي ، فإن تزوج ، أو لم [ ص: 277 ] يتمكن منه بأن مات ، أو ماتت عقب الظهار ، فلا عود ولا ظهار ، وإنما يصير مظاهرا إذ فات التزويج عليها مع إمكانه ، وحصل اليأس منه بموت أحدهما ، وحينئذ يحكم بكونه كان مظاهرا قبيل الموت ، وفي لزوم الكفارة وحصول العود وجهان ، قال ابن الحداد : يلزم ، وقال الجمهور : لا يلزم ولا ضرورة إلى تقدير حصول العود عقب الظهار ، وهذا هو الصحيح . ولو لم يتزوج عليها مع الإمكان حتى جن ، فإن أفاق ثم مات قبل التزويج ، فحكمه ما سبق ، وإن اتصل الموت بالجنون ، تبينا مصيره ظاهرا قبيل الجنون .

                                                                                                                                                                        وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه لا يحكم بمصيره مظاهرا إلا قبيل الموت ، ويجيء مثله في تعليق الطلاق . قال الشيخ : ولا تظهر فائدة هذا الخلاف في الظهار إذا قلنا بالصحيح وقول الجمهور : إنه لا كفارة ، وعلى قول ابن الحداد تظهر فائدته إن اختلف حاله في اليسار والإعسار .

                                                                                                                                                                        ولو قال : إذا لم أتزوج عليك ، فأنت علي كظهر أمي ، فإذا مضى عقب التعليق زمان إمكان التزوج ولم يتزوج ، صار مظاهرا ، والفرق بين إن وإذا سبق بيانه في كتاب الطلاق ، وذكرنا هناك أن من الأصحاب من خرج من كل واحدة إلى الأخرى ، وهو جار هنا .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        قال : إن دخلت فأنت علي كظهر أمي ، ثم أعتق عن كفارة الظهار ، ثم دخلت ، فهل يجزئه إعتاقه عن الكفارة ؟ وجهان ، قال ابن الحداد : نعم ، كتقديم الزكاة وكفارة اليمين ، وقال الجمهور : لا ، لأنه تقديم على السببين جميعا ، فلم يصح كتقديم الزكاة على الحول والنصاب ، وكفارة اليمين على اليمين ، ويجري الخلاف ، لو أطعم عن الظهار وهو من أهل الإطعام قبل دخول الدار ، ولا يجري في الصوم على المذهب ، والوجهان جاريان في تعليق الإيلاء . فإذا قال : إن دخلت [ ص: 278 ] الدار فوالله لا أطؤك ، ثم أعتق عن كفارة اليمين قبل دخول الدار ، جوزه ابن الحداد ، وخالفه الجمهور . ولو قال : إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ، وقال : متى دخلت ، فعبدي فلان حر عن ظهاري ، فدخلت ، فعلى رأي ابن الحداد يصير مظاهرا ، ويعتق العبد عن الظهار ، وعلى الصحيح وقول الجمهور : لا يصح تعليق إعتاقه عن الظهار ، وأما إذا أعتق عن الظهار بعد الظهار وقبل العود ، فيجزئه قطعا ، وسنوضحه في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى . ولو قال : أنت علي كظهر أمي ، أعتقت هذا عن كفارتي ، أو أنت علي كظهر أمي ، وسالم حر عن ظهاري ، فهذا إعتاق مع العود ، ويجزئه عن الكفارة التأخر عن الظهار .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ظاهر من زوجته الأمة ، وعاد ثم قال لمالكها : أعتقتها عن ظهاري ، ففعل ، وقع عتقها عن كفارته ، وانفسخ النكاح . وكذا لو أعتقها عنه باستدعائه عن كفارة أخرى ، ولو ملكها بعدما ظاهر ، وعاد فانفسخ النكاح ، ثم أعتقها عن ظهاره منها ، أجزأه . ولو آلى من زوجته الأمة ، ووطئها ولزمته الكفارة فقال لسيدها : أعتقها عن كفارة يميني ، ففعل ، أجزأه وانفسخ النكاح ، ولو آلى من زوجته الذمية ، ثم وطئها ، أو ظاهر منها وعاد ، ثم نقضت العهد ، فاسترقت ، فملكها الزوج فأسلمت ، فأعتقها عن كفارة ظهاره ، أجزأه ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية