الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هو مما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم، كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره. والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ؛ ولذلك قالوا: لو كان العقل علة في معرفة الباري، لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده، وتعدم بعدمه. كالمنظورات تدرك بوجود البصر، وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر. وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات. [ ص: 19 ]

ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام، مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمنا، علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك. وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله، ويحكم بجنونه، وهو باق على المعرفة، مقر بالتوحيد، عارف بالله. وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به. فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل.

وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد. وهذا مما لا ينازع فيه أحد، فإن من يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية، ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة، ولا بمجرد ذلك يصير مؤمنا.

وهذا العقل هو العقل الذي هو شرط في الأمر والنهي. وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة. كما قال تعالى عن أهل النار: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [سورة الملك: 10].

وقال تعالى: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [سورة الفرقان: 44].

وقال تعالى: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [سورة يوسف: 2].

وقال: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [سورة العنكبوت: 43]، وأمثال ذلك في القرآن.

واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل، بقوله تعالى: وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله [سورة الأحقاف: 26]. [ ص: 20 ]

وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله. فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع، والمعرفة المنجية من عذاب الله. وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له.

احتجوا أيضا بما ذكروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد. هو إمام العمل، والعمل تابعه. يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم، وينتهى إلى رأيهم». [ ص: 21 ]

قالوا: فوجه الدليل قوله: (به يعرف الله ويعبد). وهذا الكلام معروف عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، رووه عنه بالأسانيد المعروفة. وهو كلام حسن، ولكن روايته مرفوعا فيه نظر. وفيه: أن الله يعرف ويعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية. وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول.

ومن يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إنما تحصل بعلوم عقلية، أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل، لا يقول: إن نفس العقل -الذي هو الغريزة ولوازمها- يوجب حصول المعرفة والعبادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية