الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 555 ] مسألة : وبيع العبد ، وابتياعه بغير إذن سيده جائز ، ما لم ينتزع سيده ماله فإن انتزعه فهو حينئذ مال السيد ، لا يحل للعبد التصرف فيه ، برهان ذلك - : قول الله - تعالى - : { وأحل الله البيع } فلم يخص حرا من عبد .

                                                                                                                                                                                          وقال - تعالى - : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فلو كان بيع العبد ماله بغير إذن سيده حراما لفصله - عز وجل - لنا ، ولما ألجأنا فيه إلى الظنون الكاذبة ، والآراء المدبرة .

                                                                                                                                                                                          فإذ لم يفصل لنا تحريمه ، فصح أنه حلال غير حرام ، وقد ذكرنا في " كتاب الزكاة " من ديواننا هذا وغيره صحة ملك العبد لماله ; وأما انتزاع السيد مال العبد فقد صح { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعطى الحجام أجره وسأل عن ضريبته ؟ فأمر مواليه أن يخففوا عنه منها } .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق مسلم أنا عبد بن حميد أنا عبد الرزاق أنا معمر عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس [ قال ] { حجم النبي صلى الله عليه وسلم عبد لبني بياضة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجره وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته } .

                                                                                                                                                                                          فصح أن العبد يملك لأنه عليه السلام أعطاه أجره فلو لم يكن له ما أعطاه ما ليس له - وصح أن للسيد أخذه بأمره عليه السلام بأن يخفف عنه من خراجه ، فصح أن مال العبد له ما لم ينتزعه سيده ، وصح أن للسيد أخذ كسب عبده لنفسه .

                                                                                                                                                                                          واختلف الناس في هذا فقال أبو حنيفة : إذا ادان العبد ببيع أو ابتياع بغير إذن سيده فهي جناية في رقبته ، ويلزم السيد فكه بها أو إسلامه إلى صاحب دينه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أول ما يقال لهم : من أين قلتم هذا ؟ وليس هذا الحكم موجودا في قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي يعقل له وجه ، بل هو ضد ذلك كله ، قال الله - تعالى - : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } .

                                                                                                                                                                                          فبطل أن يكسب الحر أو العبد على سيده ، أو على غير نفسه إلا حيث أوجبه النص كالعاقلة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 556 ] ثم وجه آخر - وهو قوله : إن البيع والابتياع جناية - وهذا تخليط آخر ، وقال مالك : إذا تداين العبد بغير إذن سيده فلسيده فسخ الدين عنه - وهذا باطل شنيع ، لأنه إباحة لأكل أموال الناس بالباطل ، وقد حرمه الله - تعالى - ، ورسوله عليه السلام قال - تعالى - : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

                                                                                                                                                                                          ومن عجائب الدنيا أنهم يوجبون على من لم يبلغ جزاء ما جنى ، وكذلك المجنون ، ثم يسقطون البيع الواجب عن العبد العاقل ، ثم أتوا من ذلك بقول لم يأت قط في قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد قبل مالك نعلمه ، ولا في قياس ، ولا رأي له وجه .

                                                                                                                                                                                          وعجب آخر - وهو أنهم يقولون : إن وجدت السلعة التي اشترى العبد بيده وجب ردها إلى صاحبها ، فليت شعري من أين وجب إزالة السلعة عن يد العبد ، ولم يجب إغرامه الثمن عنها إن لم توجد .

                                                                                                                                                                                          ولئن كانت السلعة مال البائع : فإن الثمن ماله .

                                                                                                                                                                                          ولئن كان الثمن ليس هو مال البائع ، فإن السلعة ليست ماله ، بل قد عكس الأمر ههنا أقبح العكس وأوضحه فسادا ; لأنه رد إلى البائع سلعة قد بطل ملكه عنها ، وصح ملك العبد المشتري عليها ، فأعطاه ما ليس له ولم يعطه الثمن الذي هو له بلا شك - وهذه طوام لا نظير لها .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : بل الثمن دين عليه في ذمته إذا أعتق يوما ما ؟ وهذا قول في غاية الفساد ; لأنه إن كان الثمن لازما للعبد فلأي معنى يؤخر به إلى أن يعتق .

                                                                                                                                                                                          ولئن كان الثمن ليس لازما الآن فلا يجوز إغرامه إياه إذا أعتق .

                                                                                                                                                                                          ولئن كان ابتياعه صحيحا فإن الثمن عليه الآن واجب .

                                                                                                                                                                                          ولئن كان ابتياعه فاسدا فما يلزمه ثمن إنما يلزمه قيمة ما أتلف فقط .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 557 ] فهذه آراء فاسدة متخاذلة متناقضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، واختلافهم فيها دليل على أنها ليست من عند الله عز وجل ، فتيقن كل موقن سقوطها كلها .

                                                                                                                                                                                          وقولنا هو قول أبي سليمان ، وأصحابنا ، وقد ذكرناه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما وعن غيره - وبالله - تعالى - التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية