الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 3879 ] خاتمة

                                                          قال تعالى: في ختام هذه السورة التي بلغت أقصى غاية القصص بلاغة وبيانا، وعلما نفسيا وخلقيا، وبيانا للإرادة القوية، وكيف تصبر في مواطن الهجوم عليها بالأهواء الجامحة، والشهوات المنحرفة، والوفاء، والمحبة، والرفق في المعاملة، وعلاج الأمور بالحكمة، والتدبير، ولطف المواتاة للخير.

                                                          قال تعالى في ختام هذه السورة:

                                                          لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

                                                          القصص بالفتح: الإخبار عن الماضين، والقصص بالكسر جمع قصة، كقطع جمع قطعة، وغير ذلك، وقوله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب قصر بعض المفسرين القصص على قصة يوسف عليه السلام، وبعضهم عممه على قصص الأنبياء جميعا، وعلى ذلك يكون الضمير في قصصهم يعود إلى الأنبياء الذين ذكرت أخبارهم في القرآن الكريم كنوح وإدريس وإبراهيم وموسى وعيسى ولوط ويوسف ويعقوب، وعلى الرأي الأول يكون الضمير يعود إلى يوسف وأبيه وإخوته.

                                                          وقد رجح الزمخشري الثاني بعود الضمير إلى الأنبياء، وذلك لقراءة كسر القاف، إذ إنها تكون قصصا، وليست قصة واحدة، وقصة يوسف واحدة، وليست قصصا متعددة.

                                                          ومهما يكن فإن قصة يوسف قصة واحدة، اختص بها يوسف عليه السلام، وهي أخبار متنوعة قطبها يوسف عليه السلام، وفيها عبر مختلفة، فيها بيان لحال النفوس، وما يعروها من منازع، وما تعترك به من أهواء، وما في النفس من قوة إرادة وصبر للمهتدين، ونزوغ فاسد للضعفاء الذين ينساقون، وما فيها ما يحمي البيوت من آفات، وما يعروها من انحرافات، وفيها بيان لتدبير الجماعة، وتنظيم [ ص: 3880 ] لاقتصادها، وإحكام، وإخلاص، وعدل، وبيان لما يجب من الادخار من سني الرخاء لسني الشدة، كما قال تعالى: فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون

                                                          وفي سورة يوسف صورة للحاكم العادل، تراها في أوصاف يوسف عليه السلام.

                                                          وأولى هذه الصفات البارزة: قوة الإرادة، ومظهرها الصبر عندما تعتلج النفس بأسباب الشهوات.

                                                          وثانيها: الأناة، وأن يضبط نفسه عند الغضب، ولا ينساق وراءه، فالحاكم الذي يسير وراء الغضب يشط، ويظلم، وقد رماه إخوته بالسرقة كاذبين عليه، مغرضين عليه.

                                                          وثالثها: العناية بذوي الحاجات، ولو كانوا مؤذين له، أو سبق لهم منه الأذى كما عامل إخوته.

                                                          ورابعها: الثقة بالنفس، وطلب الأمر إن كان يصلحه، كما قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض فلم يفر من تحمل التبعة عن بينة وجدارة واستحقاق، مع ذاكرة قوية مدركة، يعلم ما مضى وما حضر.

                                                          وخامسها: الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده، فلا يشرك، فتدين الحاكم يجعله خاضعا لله.

                                                          وسادسها; أن يكون رفيقا في معاملة الناس شفيقا بهم، فهو كالوالي على اليتيم، يعطيهم من رفقه ورفده ما يدنيهم إليه، وهكذا كان يوسف حتى وهو في سجنه، فقد كان يناديهم، وهو في سجنه مع المسجونين بأنهم أحبابه وأصحابه، وإن من الشفقة والرفق العفو عندما توجد أسباب يداوى به الحسد والعداوة، فلا يجتث شيء الحسد والأحقاد كالعفو والمحبة وإدناء البعيد، وتقريب العشير، وكل ذلك كان في يوسف. [ ص: 3881 ]

                                                          وسابعها: التأني للأمور، وقد رأينا كيف أخذ الثقة في لين، ومن غير إعنات من العزيز، ظهر ذلك فيمن هو أعلى منصبا منه، وظهر في صغائر الأمور، كما رأيت في استبقائه أخاه من غير اقتتال، بل بوضعه السقاية في رحل أخيه من غير اتهام لشخصه، ثم أخذ الحكم من ألسنتهم، ونفذه بقولهم. ثم من بعد ذلك أخذ الأمور بالتأني، حتى التقى بأبيه على مائدة الرحمة والمودة والإيثار، وقد قتل الحقد بالعفو، والغيرة بالمحبة، والضلال بالهداية.

                                                          وفي السورة عبر كثيرة، وقد ذكرنا بعضا منها في أول السورة في معاني قوله تعالى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين

                                                          وقلنا: إن قوله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الضمير يعود إلى الأنبياء، وخصصنا نحن قصة يوسف ببعض ما يلوح منها من عبر، والعبرة والاعتبار الحال التي يعرف فيها، ما يجب عمله في الحاضر بالأخذ مما كان في الماضي بأن يتفكر ويتدبر ما كان في الماضي من وقائع، ويعلم أنه نور يضيء للحاضر، فالإنسان ابن الإنسان يتشابه في آثامه، ويتشابه في عواقبها ونهايتها، فذكر هذه الآثام لجماعة أو قبيل، وبيان العواقب بيان للعواقب في كل جيل، لمن يقع فيها من أهل هذا الجيل الذي خلف الأول، ولذا كان في قصص الرسل إنذار للمشركين وتسلية للنبي والمؤمنين بأن نصر الله آت، وكل آت قريب مهما يتأخر الزمان.

                                                          ويقيد سبحانه وتعالى المعتبرين بأن يكونوا من ذوي الألباب أي: العقول التي تذهب في إدراكها إلى لب الأمور وحقائقها، ويتدبرون مباديها، ونهاياتها، ويبين الله سبحانه أنه لم يكن حديثا يفترى ويخترع كأساطير الأولين ما كان حديثا يفترى كما قال الأفاكون إنها أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا والتنكير في - حديثا - لعموم النفي أي: ما كان حديثا أي: حديثا يفترى ويخترع اختراعا لمجرد التسلية وتزجية الفراغ، [ ص: 3882 ] والتسلي المجرد بالأحاديث، بل كان أخبارا جاءت بها الكتب السماوية من قبل، ولذا قال تعالى: ولكن تصديق الذي بين يديه أي: أنه كلام فيه تصديق لما بين يديه من الكتب السماوية التي نزلت من قبله كالتوراة الصادقة، وقوله: تصديق الذي بين يديه فيه إثبات صدقه فيما أخبر، وصدقها فيما أخبرت به; لأن الصدر فيها واحد، ويعبر بكلمة بين يديه في القرآن بما سبقه، وكأنه بعلمه حاضر بين يديه.

                                                          لقد ذكرها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال إنها من القرآن، وهي موافقة للصادق من الكتب عند اليهود والنصارى ومبينة للزائف منها، وكان ذلك على لسان رجل لا يقرأ ولا يكتب، وفي قوم أميين ليس عندهم علم ولا معاهد للعلم، وما كان كثير النجعة والارتحال، بل لم يعرف له إلا رحلتان إلى الشام، إحداهما في الثانية عشرة، والثانية في الخامسة والعشرين من عمره.

                                                          والضمير المستتر في قوله تعالى: ما كان حديثا يفترى عائد إلى القصص، وهو مصدق لما جاء في الكتب السابقة، ودليل على صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه هداية ورحمة لقوم من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم فالقصص فيه هداية لأن فيه دعوة النبيين وعاقبة المكذبين، وفيه رحمة لتجنيب المؤمنين عاقبة الكفر.

                                                          ويصح أن يكون الضمير عائد إلى القرآن الكريم المشتمل على القصص فهو في ذاته هدى، لأنه من عند الله، وهو رحمة، لأن الهداية رحمة، وخص ذلك بالذين يؤمنون ويذعنون للحق إذا جاءهم، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أما من لا يذعنون ولا يؤمنون فهم قوم بور.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية