الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الخيار في البيع

                                                            عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار وفي رواية لهما إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ولهما كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار وللبخاري البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما قال أو يكون بيع خيار وله كان ابن عمر إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه وقال مسلم كان إذا بايع رجلا فأراد ألا يقيله قام فمشى هنية ثم رجع إليه ولأبي داود والترمذي وحسنه والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله وللبيهقي حتى يتفرقا من مكانهما ولأبي داود من حديث حكيم بن حزام البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يختار ثلاث مرار وهو عند البخاري دون قوله (أو) وللنسائي من حديث سمرة البيعان بالخيار حتى يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوي ويتخايران ثلاث مرار .

                                                            التالي السابق


                                                            باب الخيار في البيع

                                                            عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار فيه فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك بهذا اللفظ وقال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في لفظه وأخرجوه من طرق أيوب السختياني بلفظ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما قال أو يكون بيع خيار لفظ البخاري ولم يسق مسلم لفظه بل قال إنه نحو حديث مالك وقال أبو داود بمعناه قال أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وأخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري بلفظ إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارا قال نافع وكان [ ص: 147 ] ابن عمر إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه لفظ البخاري وكذا النسائي إلا أنه قال يفترقا إلا أن يكون البيع خيارا ولفظ الترمذي البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه من طريق الليث بن سعد بلفظ إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا وتخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن يتبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع .

                                                            وأخرجه مسلم والنسائي من رواية ابن جريج بلفظ إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار فإن كان بيعهما عن خيار فقد وجب البيع قال نافع فكان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنية ثم رجع إليه لفظ مسلم وقال النسائي (يفترقا) ولم يذكر الموقوف الذي في آخره وأخرجاه أيضا من رواية عبد الله [ ص: 148 ] بن عمر وانفرد به مسلم من رواية الضحاك بن عثمان والنسائي من رواية إسماعيل ابن علية كلهم وهم ثمانية عن نافع عن ابن عمر وقال ابن حزم بعد ذكره طرق حديث ابن عمر وحكيم بن حزام هذه أسانيد متواترة متظاهرة منتشرة توجب العلم الضروري ثم حكى عن بعض أهل الجهل أنه قال هذا خبر جاء بألفاظ شتى فهو مضطرب ثم رده بأن ألفاظه منقولة نقل التواتر ليس شيء منها مختلفا.

                                                            (الثانية) قوله المتبايعان كذا في أكثر الروايات وفي بعضها البيعان وكلاهما في الصحيحين كما تقدم ولم يرد في شيء من طرقه فيما أعلم البائعان، وإن كان استعمال لفظ البائع أغلب وقد استعمل في اللغة الأمران كما في ضيق وضائق وصين وصائن، واقتصروا على فعل في ألفاظ محصورة كطيب وسيئ وميت وكيس وريض ولين وهين وقالوا بان بمعنى بعد فهو بائن وبمعنى ظهر فهو بين، وقام ببدنه فهو قائم وقام بالأمر وعلى اليتيم فهو قيم ففرقوا بينهما بحسب المعنى. (الثالثة) قوله: ما لم يتفرقا كذا في أكثر الروايات وفي بعضها يفترقا بتقديم الفاء وبالتخفيف، وهو عند النسائي من غير وجه كما تقدم وكذا هو عند مسلم من حديث حكيم بن حزام وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل أنه قال يفترقان بالكلام ويتفرقان بالأبدان، وأنكره القاضي أبو بكر بن العربي وقال لا يشهد له القرآن ولا يعضده الاشتقاق قال الله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة فذكر التفرق فيما ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الافتراق في قوله افترقت اليهود والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (قلت): التفرق الذي في الآية والافتراق الذي في الخبر لا يمتنع أن يراد بهما الأبدان ؛ لأنه لازم لاختلاف العقائد غالبا فإن من خالف شخصا في عقيدته هجره ولم يساكنه غالبا.

                                                            وبتقدير أن يراد به الأقوال فلا يطابق من أول هذا الحديث على الافتراق بالأقوال كما سنحكيه ؛ لأن أقوال أولئك المختلفين متفرقة ولا يطابق شيء منها الآخر وأما هنا فإن قولي البائعين متوافقان لا يخالف أحدهما الآخر فإنه لو خالفه لم يصح البيع والله [ ص: 149 ] أعلم.

                                                            (الرابعة) فيه ثبوت الخيار لكل من المتبايعين في إمضاء البيع وفسخه ما داما مصطحبين فإذا تفرقا بأبدانهما انقطع هذا الخيار ولزم البيع وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وممن قال به علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأبو برزة الأسلمي وطاوس وسعيد بن المسيب وعطاء وشريح القاضي والحسن البصري والشعبي والزهري وابن جريج والأوزاعي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وسفيان بن عيينة والشافعي ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبيد الله بن الحسن العنبري وسوار القاضي ومسلم بن خالد الزنجي وابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد والبخاري وسائر المحدثين وآخرون.

                                                            وقال به من المالكية عبد الملك بن حبيب وذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى إنكار خيار المجلس وقالوا: إنه يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول وبه قال إبراهيم النخعي واختلف في ذلك عن ربيعة وسفيان الثوري قال ابن حزم الظاهري : ما نعلم لهم من التابعين سلفا إلا إبراهيم وحده وروايته مكذوبة عن شريح والصحيح عنه موافقة الحق، وكذا قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا رده غير هذين الاثنين إلا ما روي عن إبراهيم النخعي . انتهى.

                                                            وقال مالك في الموطإ لما روى هذا الحديث: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به قال ابن عبد البر : واختلف المتأخرون من المالكية في تخريج قول مالك هذا فقال بعضهم: دفعه بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، وإجماعهم حجة وقال بعضهم لا يصح دعوى إجماعهم في هذه المسألة ؛ لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب وهما أجل فقهاء المدينة روي عنهما منصوصا العمل به ولم يرو عن أحد من أهل المدينة ترك العمل به نصا إلا عن مالك وربيعة وقد اختلف فيه على ربيعة وكان ابن أبي ذئب وهو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالك ينكر على مالك اختياره ترك العمل به حتى جرى منه لذلك في مالك قول خشن. قال: وإنما أراد مالك بهذا إنكار القول بأن خيار الشرط لا يكون إلا ثلاثة أيام فإنه عند مالك وأهل المدينة يكون ثلاثا وأكثر وأقل بحسب المبيع. قال: وأما خيار المجلس فإنما رده [ ص: 150 ] اعتبارا ونظرا مال فيه إلى رأي بعض أهل بلده انتهى.

                                                            وحكى ابن العربي حمل كلام مالك هذا على دفع الحديث بعمل أهل المدينة عمن لا تحصيل له من أصحابهم قال: وقد توهم ذلك عليه ابن الجويني يعني إمام الحرمين فقال: يروي الحديث عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتركه لعمل أهل المدينة قال ولم يفهم ابن الجويني عنه ثم ذكر ابن العربي ما حاصله أن مقصود مالك رد الحديث بأن وقت التفرق غير معلوم فالتحق ببيوع الغرر كالملامسة والمنابذة وسنحكي عبارته في ذلك وسبق إمام الحرمين على إنكار ذلك على مالك والشافعي فقال ما أدري أتهم مالكا نفسه أم نافعا وأعلم عبد الله بن عمر أن أذكره إجلالا له وروى البيهقي في سننه عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنه حدث الكوفيين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا قال فحدثوا به أبا حنيفة فقال ليس هذا بشيء أرأيت إن كان في سفينة قال على أن الله سائله عما قال وقد أجاب أصحابهما عن هذا الحديث بأجوبة:

                                                            (أحدها) ما تقدم من مخالفته لإجماع أهل المدينة وتقدم رده بأنهم لم يجتمعوا على مخالفته وأيضا فإجماعهم ليس بحجة وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الحق الذي لا شك فيه أن إجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر ؛ لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه وكيف يمكن أن يقال بأن من كان بالمدينة من الصحابة يقبل خلافه ما دام مقيما بها فإذا خرج عنها لم يقبل خلافه هذا محال فإن قبول قوله باعتبار صفات قائمة به حيث حل وقد خرج منها علي وهو أفضل أهل زمانه بإجماع أهل السنة وقال أقوالا بالعراق كيف يمكن أن تهدر إذا خالفها أهل المدينة وهو كان رأسهم وكذلك ابن مسعود ومحله من العلم معلوم وغيرهما قد خرجوا وقالوا أقوالا على أن بعض الناس يقول إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعى العموم في ذلك. انتهى.

                                                            (ثانيها) ادعى أنه حديث منسوخ إما ؛ لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس وذلك يدل على النسخ، وإما لحديث اختلاف المتبايعين فإنه يقتضي الحاجة [ ص: 151 ] إلى اليمين، وذلك يستلزم لزوم العقد ولو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف حكاه الشيخ تقي الدين وقال: وهو ضعيف جدا، أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة فقد تكلمنا عليه والنسخ لا يثبت بالاحتمال ومجرد المخالفة لا يلزم أن يكون النسخ لجواز أن يكون لتقديم دليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم وأما حديث اختلاف المتبايعين فالاستدلال به ضعيف جدا ؛ لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ، والنسخ لا يصار إليه إلا عند الضرورة. انتهى.

                                                            (ثالثها) أن المراد بالمتبايعين المتساومان والمراد بالخيار خيار القبول فإن المشتري بعد إيجاب البائع إن شاء قبل، وإن شاء لم يقبل والبائع له الرجوع عن الإيجاب ما لم يقبل المشتري وهذا التأويل محكي عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن وعيسى بن أبان وحكاه ابن خويز منداد عن مالك ورد بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز والحمل على الحقيقة أولى بل الحمل على هذا المجاز متعذر فإنه جعل غاية الخيار التفرق ولو كان المراد خيار المتساومين لم ينقطع بالتفرق فإن حمل التفرق على الأقوال فهذا جواب آخر سنحكيه ونرده وقد اعترض على هذا الرد بأن تسميتهما متبايعين بعد الفراغ مجاز أيضا. وجوابه أنه أقرب إلى الحقيقة بل هو حقيقة عند بعضهم بخلافه باعتبار ما كان فإنه مجاز بالاتفاق.

                                                            (رابعها) أن المراد بالمتبايعين المتساومين بتقرير غير المتقدم، وهو أن الذي يراد منه البيع إن شاء باع، وإن شاء لم يبع والذي يريد الشراء قد يشتري وقد لا يشتري وهذا أضعف من الذي قبله فإن هذا معنى ركيك يصان كلام الشارع من الحمل عليه، ولو صدر من أحد الناس الأخيار بأن المتساومين إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه عد ذلك سخفا وحماقة فكيف يحمل الحديث على ذلك.

                                                            (خامسها) أن المراد التفرق بالأقوال كما في قوله تعالى وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته أي عن النكاح وأجيب عنه بأنه خلاف الظاهر فإن السابق إلى الفهم التفرق عن المكان وقد ورد التصريح بذلك فيما رواه البيهقي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل [ ص: 152 ] واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما الحديث ويدل له فعل راويه ابن عمر رضي الله عنهما فإنه كان إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه وفي رواية كان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنية ثم رجع إليه وقد تقدم ذكر الروايتين وهما في الصحيحين وهما صريحتان في أن المراد التفرق عن المكان وروى الشافعي عن ابن عيينة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال خير رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بعد البيع فقال الرجل عمرك الله ممن أنت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرؤ من قريش ، وكان أبي يحلف ما الخيار إلا بعد البيع ورواه ابن ماجه والبيهقي من حديث جابر متصلا وقال بعضهم في الرد على الافتراق: خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره فإن قالوا هو غيره فقد جاءوا بما لا يعقل ؛ لأنه ليس ثم كلام غيره، وإن قالوا هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما به افترقا وبه انفسخ بيعهما هذا ما لا يعقل.

                                                            (سادسها) أن في سنن أبي داود وسكت عليه والترمذي وحسنه والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا في هذا الحديث ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى استقالة ولا طلب الفرار من الاستقالة وجوابه من وجهين:

                                                            (أحدهما) أن قوله لا يحل لفظة منكرة فإن صحت فليست على ظاهرها لإجماع المسلمين أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء .

                                                            (ثانيهما) أنه أراد بالإقالة هنا الفسخ بحكم الخيار فإنه الذي ينقطع بالمفارقة أما طلب الإقالة بالاختيار فلا فرق فيه بين أن يتفرقا أم لا فإن ذلك إنما يكون بالرضا منهما وهو جائز بعد التفرق .

                                                            (سابعها) أن هذا الحديث قد خالفه رواية مالك فلا يعمل به قاله بعض الحنفية ، وهذا ضعيف من وجهين:

                                                            (أحدهما): أن هذه قاعدة مردودة .

                                                            (ثانيهما) مع تسليمها فمالك ينفرد به فقد رواه غيره وعمل به فإن تعذر الاستدلال به من طريق مالك أمكن من طريق غيره على أن القرافي قال: الذي أعتقده أن الخلاف مخصوص بالصحابي [ ص: 153 ] لكن صرح إمام الحرمين بأنه لا فرق في ذلك بين الصحابي وغيره.

                                                            (ثامنها) أن هذا خبر واحد فلا يقبل فيما تعم به البلوى وهو البيع. وجوابه: أن الفسخ ليس مما تعم به البلوى، وإن عمت البلوى بالبيع ؛ لأن الإقدام على البيع دال على الرغبة فيه فالحاجة لمعرفة حكم فسخه لا تعم وبتقدير عمومها فرد خبر الواحد فيه ممنوع. .

                                                            (تاسعها) أنه مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده في منع كل منهما من إبطال حق صاحبه وذلك مقدم على خبر الواحد وجوابه أنه قد يحصل الندم على البيع لوقوعه من غير ترو فيستدرك بالخيار، ولا يمكن ثبوته مطلقا لانتفاء وثوق المشتري بتصرفه فجعل ما قبل التفرق حريما لذلك وهذا فارق بين الحالتين ثم لو لم يكن بينهما فرق لم يرد الحديث بذلك فإن ذلك الأصل إنما ثبت بالنص، والنص موجود في هذا الفرع بعينه فإما أن يكون الشارع أخرج هذه الجزئية عن الكليات لمصلحة أو تعبدا فيجب اتباعه.

                                                            (عاشرها) قال بعضهم: إن العمل بظاهره متعذر فإنه أثبت لكل منهما الخيار على صاحبه فإن اتفقا في الاختيار لم يثبت لواحد منهما على الآخر خيار، وإن اختلفا بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء فقد استحال أن يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار فإن الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل وجوابه أن المراد الخيار في الفسخ فأيهما اختار الفسخ قبل التفرق مكن منه وأما الإمضاء فلا يحتاج إلى اختيار فإنه مقتضى العقد والحال يفضي إليه مع السكوت عنه وعن ضده والله أعلم.

                                                            (حادي عشرها) قال بعضهم: إنه لا يتعين حمل الخيار هنا على خيار الفسخ فلعله أريد خيار الشراء أو خيار الزيادة في الثمن أو المثمن وجوابه من وجهين: .

                                                            (أحدهما) أنه لا يمكن إرادة خيار الشراء ؛ لأن المراد من المتبايعين المتعاقدان وبعد صدور العقد لا خيار، ولا خيار الزيادة في الثمن أو المثمن عند من يراه لبقائه بعد التفرق والخيار المثبت ملغيا بالتفرق. .

                                                            (ثانيهما) أن المعهود من النبي صلى الله عليه وسلم استعمال لفظة الخيار في خيار الفسخ كما في قوله في حديث حبان ولك الخيار وفي حديث المصراة فهو بالخيار ثلاثا والمراد فيهما خيار الفسخ فيتعين الحمل عليه.

                                                            (ثاني عشرها) تمسك بعضهم في رد ذلك بالعمومات مثل [ ص: 154 ] قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قالوا: وفي الخيار إبطال الوفاء بالعقد ومثل قوله عليه الصلاة والسلام من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قالوا فقد أباح بيعه بعد قبضه، ولو كان قبل التفرق ولا يخفى ضعف هذا المسلك فإن العموم لا ترد به النصوص الخاصة، وإنما يقضى للخاص على العام، وقد ظهر بما بسطناه أنه ليس لهم متعلق صحيح في رد هذا الحديث ؛ ولذلك قال ابن عبد البر أكثر المتأخرين من المالكية والحنفية في الاحتجاج لمذهبنا في رد هذا الحديث بما يطول ذكره وأكثره تشعيب لا يحصل منه على شيء لازم لا مدفع له.

                                                            وقال النووي في شرح مسلم الأحاديث الصحيحة ترد عليهم، وليس لهم عليها جواب صحيح فالصواب ثبوته كما قال الجمهور وانتصر ابن العربي في ذلك لمذهبه بما لا يقبله منصف ولا يرتضيه لنفسه عاقل فقال الذي قصد مالك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل العاقدين بالخيار بعد تمام البيع ما لم يتفرقا، ولم يكن لفرقتهما وانفصال أحدهما عن الآخر وقت معلوم ولا غاية معروفة إلا أن يقوما أو يقوم أحدهما على مذهب وهذه جهالة يقف معها انعقاد البيع فيصير من باب بيع المنابذة والملامسة بأن يقول إذا لمسته فقد وجب البيع، وإذا نبذته أو نبذت الحصاة فقد وجب البيع، وهذه الصفة مقطوع بفسادها في العقد فلم يتحصل المراد من الحديث مفهوما، وإن فسره ابن عمر راويه بفعله وقيامه عن المجلس ليجب له البيع فإنما فسره بما يثبت الجهالة فيه فيدخل تحت النهي عن الغرر كما يوجبه النهي عن الملامسة والمنابذة وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا تفسيره، وإنما هو من فهم ابن عمر .

                                                            وأصل الترجيح الذي هو قضية الأصول أن يقدم المقطوع به على المظنون والأكثر رواة على الأقل فهذا هو الذي قصده مالك مما لا يدركه إلا مثله ولا يتفطن له أحد قبله ولا بعده وهو إمام الأئمة غير مدافع له في ذلك. انتهى.

                                                            وهو عجيب أيعقل على الشارع، ويقال له هذا الذي حكمت به غرر وقد نهيت عن الغرر فلا نقبل هذا الحكم ونتمسك بقاعدة النهي عن الغرر وأي غرر في ثبوت الخيار رفقا بالمتعاقدين لاستدراك ندم، وهذا المخالف يثبت خيار الشرط على ما فيه من الغرر بزعمه وحديث خيار [ ص: 155 ] المجلس أصح منه ويعتبر التفرق في إبطاله للبيع إذا وجد قبل التقابض في الصرف ولا يرى تعليق ذلك بالتفرق بالأبدان غررا مبطلا للعقد ثم بتقدير أن يكون فيه غرر فقد أباح الشارع الغرر في مواضع معروفة كالسلم والإجارة والحوالة وغيرها ثم بتقدير أن يكون لحكمة اقتضت ذلك بل لو لم يظهر لنا حكمته فإنه يجب علينا الأخذ به تعبدا والمسلك الذي نفاه عن إمامه أقل مفسدة من الذي سلكه فإن ذاك تقديم للإجماع في اعتقاده إن صح على خبر الواحد وأما ما سلكه ففيه رد السنن بالرأي وذلك قبيح بالعلماء.

                                                            (الخامسة) ظاهره ثبوت الخيار في كل بيع وقد استثنى بعض أصحابنا من ذلك صورا لم يثبتوا فيها خيار المجلس والصحيح عندهم ثبوته في كل بيع ولا يرد على ذلك أن الأصح عند الرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب أنه لا يثبت في بيع العبد نفسه ؛ لأن ذلك عقد عتاقة واستثنى الأوزاعي من ذلك بيوعا ثلاثة بيع السلطان للغنائم، والشركة في الميراث، والشركة في التجارة قال فليس في هذه خيار.

                                                            (السادسة) لم يذكر في الحديث للتفرقة ضابطا ومرجعه العرف وقد كان ابن عمر راوي الحديث إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه وفي رواية إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له وفي رواية كان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنية ثم رجع إليه وقد تقدم ذكرها قال أصحابنا ما عده الناس تفرقا لزم به العقد فلو كانا في دار صغيرة فالتفرقة أن يخرج أحدهما منها أو يصعد السطح، وكذا لو كانا في مسجد صغير أو سفينة صغيرة فالتفرق أن يخرج أحدهما منها فإن كانت الدار كبيرة حصل التفرق بأن يخرج أحدهما من البيت إلى الصحن أو من الصحن إلى بيت أو صفة، وإن كانا في صحراء أو سوق فإذا ولى أحدهما ظهره ومشى قليلا حصل التفرق على الصحيح.

                                                            وقال الإصطخري يشترط أن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلمه على العادة من غير رفع صوت لم يسمع كلامه، ولا يحصل التفرق بأن يرخى بينهما ستر أو يشق نهر وهل يحصل ببناء جدار بينهما فيه وجهان أصحهما لا، وصحن الدار والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما كالصحراء فلو تناديا متباعدين وتبايعا فلا شك [ ص: 156 ] في صحة البيع ثم قال إمام الحرمين يحتمل أن يقال لا خيار لهما ؛ لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار فالمقارن يمنع ثبوته ويحتمل أن يقال يثبت ما داما في موضعهما وبهذا قطع المتولى ثم إذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه فيه احتمالان للإمام. قال النووي : الأصح ثبوت الخيار، وأنه متى فارق أحدهما موضعه بطل خيار الآخر وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي قال حد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وهو قول أهل الشام قال وقال الليث بن سعد التفرق أن يقوم أحدهما.

                                                            (السابعة) اختلف في قوله (إلا بيع الخيار) على أقوال:

                                                            (أحدها) أنه استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد ببيع الخيار أن يتخايرا في المجلس ويختارا إمضاء البيع فيلزم بنفس الخيار ولا يدوم إلى التفرق، ويدل لهذا قوله في رواية أيوب السختياني وهي في الصحيح كما تقدم (ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر) وربما قال أو يكون بيع الخيار فلما وضع قوله أو يقول أحدهما لصاحبه اختر موضع بيع الخيار دل على أنه بمعناه، ويدل لذلك قوله في رواية أخرى ما لم يتفرقا أو يختارا وكذا قوله في رواية أخرى ما لم يتفرقا، وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر.

                                                            وقد رجح الشافعي رحمه الله هذا المعنى فقال فيما رواه البيهقي في المعرفة واحتمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بيع الخيار معنيين (أظهرهما) عند أهل العلم باللسان وأولاهما بمعنى السنة والاستدلال بها والقياس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعل الخيار للمتبايعين، والمتبايعان اللذان عقدا البيع. حتى يتفرقا إلا بيع الخيار فإن الخيار إذا كان لا ينعقد بعد قطع البيع في السنة حتى يتفرقا وتفرقهما هو أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه كان بالتفرق أو بالتخيير، وكان موجودا في اللسان، والقياس إذا كان البيع يجب بشيء بعد البيع، وهو الفراق أن يجب بالثاني بعد البيع فيكون إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع كان الاختيار بجديد شيء يوجبه كما كان التفرق بجديد شيء يوجبه ولو لم يكن فيه سنة تبينه بمثل ما ذهبت إليه كان ما وصفنا أولى المعنيين أن يؤخذ به لما وصفت من القياس مع أن سفيان بن عيينة قال أنا عن عبد الله بن طاوس [ ص: 157 ] عن أبيه قال خير رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بعد البيع فقال الرجل عمرك الله ممن أنت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرؤ من قريش قال وكان أبي يحلف ما كان الخيار إلا بعد البيع قال الشافعي وبهذا نقول، وكذا حكاه الترمذي عن الشافعي وغيره وحكاه ابن المنذر عن الثوري والأوزاعي وابن عيينة وعبيد الله بن الحسن العنبري والشافعي وإسحاق بن راهويه وقال النووي في شرح مسلم : اتفق أصحابنا على ترجيح هذا القول وأبطل كثير منهم ما سواه وغلطوا قائله وممن رجحه من المحدثين البيهقي ثم بسط دلائله، وبين ضعف ما يعارضها.

                                                            (القول الثاني) أنه استثناء من انقطاع الخيار بالتفرق والمراد إلا بيعا شرط فيه خيار الشرط ثلاثة أيام أو دونها فلا ينقضي الخيار فيه بالتفرق بل يبقى حتى تنقضي المدة المشروطة حكى ابن عبد البر هذا عن الشافعي وأبي ثور وجماعة.

                                                            (القول الثالث) أنه استثناء من إثبات الخيار والمعنى إلا بيعا شرط فيه نفي خيار المجلس فيلزم البيع، ولا يكون فيه خيار.

                                                            (الثامنة) فعلى التفسير الأول قال أصحابنا ينقطع الخيار بأن يقولا تخايرنا أو اخترنا إمضاء العقد أو أمضيناه أو أجزناه أو ألزمناه وما أشبهها وكذا لو قالا أبطلنا الخيار وأفسدناه على ما صححه النووي في شرح المهذب. فلو قال أحدهما: اخترت إمضاءه انقطع خياره وبقي خيار الآخر على الصحيح. ولو قال أحدهما لصاحبه: اختر أو خيرتك فقال الآخر: اخترت انقطع خيارهما، وإن سكت لم ينقطع خياره وينقطع خيار القائل على الأصح ؛ لأنه دليل الرضا ولو أجازه واحد وفسخه آخر قدم الفسخ، وعن أحمد بن حنبل رواية أنه لا ينقطع الخيار بإمضائهما بل يستمر حتى يتفرقا وحكاه ابن بطال عن أحمد بالجزم وحكى الاتفاق على خلافه قال: وقوله خلاف الحديث فلا معنى له .



                                                            (التاسعة) ظاهر إطلاقه انقطاع الخيار بالتخاير قبل التفرق ولو كان عقد صرف ولم يتقابضا بعد وهو أحد وجهين لأصحابنا نقلهما الرافعي والنووي في الخيار وصححه في شرح المهذب وعليهما التقابض قبل التفرق.

                                                            (والوجه الثاني) أن الإجازة في هذه الصورة لاغية ويبقى الخيار مستمرا وصححا في أوائل باب الربا (وجها ثالثا) أنه يبطل العقد في هذه الصورة بالتخاير كما لو تفرقا خلافا لابن سريج فإنه [ ص: 158 ] قال لا يبطل .



                                                            (العاشرة) وعلى القول الثالث فيه سقوط خيار المجلس إذا شرط نفيه في العقد وبه قال أحمد بن حنبل في المشهور عنه وهو وجه لبعض الشافعية ، وقال بعضهم: يلغوا الشرط، ويصح العقد ويثبت الخيار والأصح عندهم وجه ثالث، وهو بطلان البيع وهو قياس الشروط الفاسدة ولم يرتض أصحابنا تفسير هذا الحديث بهذا المعنى. قال البيهقي : وذهب كثير من العلماء إلى تضعيف الأثر المنقول عن عمر رضي الله عنه البيع صفقة أو خيار وقالوا: إن البيع لا يجوز فيه شرط قطع الخيار قال في الخلافيات ثم معناه عند الشافعي البيع صفقة بعدها تفرق أو خيار فمن المحال تعلق وجوب البيع بالخيار دون الصفقة فكذلك لا يتعلق بالصفقة دون التفرق أو الخيار.

                                                            (الحادية عشرة) في شرح ما يحتاج إليه من الروايات المزيدة في النسخة الكبرى قوله (وكانا جميعا) تأكيد لقوله ما لم يتفرقا وقوله (أو يخير أحدهما الآخر) مجزوم عطفا على قوله يتفرقا والمراد أن يخير أحدهما الآخر فيختار الآخر إمضاء البيع وقد دل على ذلك قوله بعد فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك أما لو خير أحدهما الآخر فلم يختر الآخر الإمضاء فخيار ذلك الساكت باق.

                                                            وأما خيار المتكلم فإنه ينقطع على الأصح عند أصحابنا كما تقدم ذكره.

                                                            وقال النووي : إنه ظاهر لفظ الحديث وفيه نظر فإنه قد دل بتمامه على أن الكلام فيما إذا خيره فاختار الإمضاء إلا أن يعتمد في ذلك لفظ الرواية الأخرى التي اقتصر فيها على قوله أو يقول أحدهما لصاحبه اختر لكن الروايات يفسر بعضها بعضا فلا بد من النظر في مجموعها، وقد اعتمد أصحابنا في انقطاع خيار القائل أن تخييره لصاحبه دال على رضاه بإمضاء البيع وقوله فقد وجب البيع أي لزم وانبرم. .

                                                            وقوله: (وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع) تأكيد لما فهم من قوله أولا ما لم يتفرقا مصرح بأنهما إذا تفرقا من غير ترك أحدهما للبيع وجب البيع أي لزم والمراد بترك البيع فسخه وهذه الرواية صريحة في أنه يكتفى في حصول الفسخ بفسخ أحدهما، ولو لم يساعده الآخر عليه بل اختار الإمضاء وهو الذي صرح به الفقهاء القائلون بخيار المجلس من أصحابنا، وغيرهم .

                                                            وقوله (بيع بينهما) أي ليس بينهما بيع لازم وليس [ ص: 159 ] المراد نفي أصل البيع وكيف ينفي أصل البيع وقد أثبته أولا بقوله كل بيعين وتمسك ابن حزم الظاهري بظاهر هذه اللفظة، وقال: إن البيع غير صحيح ما لم يتفرقا أو يتخيرا والمعروف صحته إلا أنه عقد جائز ما لم يوجد أحد الأمرين.

                                                            وقوله (أو يقول) كذا هو في صحيح البخاري بإثبات الواو والوجه (يقل) لعطفه على المجزوم وهو قوله يتفرقا وكأنه أشبعت ضمة القاف فتولد منها واو كما في قوله تعالى إنه من يتق ويصبر عند من قرأ بإثبات الياء وكذا قوله (أو يكون).

                                                            وقال النووي في شرح المهذب: إنه منصوب اللام قال وأو هنا ناصبة بتقدير إلا أن يقول أو إلى أن يقول ولو كان معطوفا على ما قبله لكان مجزوما، ولقال أو يقل.

                                                            وقوله (هنيهة) بضم الهاء وفتح النون، وإسكان الياء المثناة من تحت بعدها هاء وبتشديد الياء، وإسقاط الهاء الثانية أي شيئا يسيرا وهو تصغير هنه والهن والهنة كناية عن الشيء لا يذكره باسمه.

                                                            وقوله (فأراد أن لا يقيله) عبر فيه بالإقالة عن الفسخ القهري فإن الإقالة بالتراضي لا فرق فيها بين أن يتفرقا أم لا وقد تقدم ذكر ذلك . وقوله (إلا أن تكون صفقة خيار) بفتح الصاد، وإسكان الفاء وفتح القاف أي بيعة خيار وسمى البيع صفقة ؛ لأن المتبايعين يضع أحدهما يده في يد الآخر وتقدم الكلام على قوله ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله وقوله ولأبي داود من حديث حكيم بن حزام البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يختار ثلاث مرار يوهم أن أبا داود وأسنده وليس كذلك، وإنما ذكره تعليقا فإنه رواه أولا بدون هذه الزيادة ثم قال: ولذلك رواه سعيد بن أبي عروبة وهمام فأما همام فقال حتى يتفرقا أو يختار ثلاث مرات.

                                                            وقوله: يختار كذا في بعض النسخ وفي بعضها يختارا بالتثنية.

                                                            وقوله وهو عند البخاري دون قوله أو ولفظه (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) قال همام ووجدت في كتابي يختار ثلاث مرار. فأما رواية التثنية فواضحة.

                                                            وأما رواية الأفراد فتأويلها يختار من ذكر وهو البيعان المذكوران فإن اختارا الإمضاء لا بد من اجتماعهما عليه ولا يكتفى به من واحد كما تقدم.

                                                            وقوله في رواية أبي داود ثلاث مرار يحتمل أن معناه أن [ ص: 160 ] النبي صلى الله عليه وسلم كرر هذا اللفظ ثلاث مرار ويحتمل أن يكون المراد أن التخاير يكون ثلاث مرار وعلى الاحتمال الثاني فهو احتياط واستظهار فإن التخاير يحصل بمرة واحدة لا نعلم في ذلك اختلافا، والظاهر أنه يتعين الاحتمال الثاني في قوله في رواية البخاري يختار ثلاث مرار وقوله في حديث سمرة وهو عند النسائي من رواية الحسن عنه البيعان بالخيار حتى يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هو الظاهر من جهة اللفظ أن قوله ويأخذ معطوف على قوله يتفرقا وتقدير إدخال حتى عليه ممكن لكن يكون مدلولها غير مدلولها عند الدخول على قوله يتفرقا فهي في دخولها على قوله يتفرقا للغاية وفي دخولها على قوله يأخذ للتعليل أي إن الخيار ثابت إلى غاية التفرق وأن علة ثبوته أن يأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوي، وإذا اختلف مدلول حتى تعذر عطف أحد الفعلين على الآخر فيقدر له حينئذ فعل تقديره البيعان بالخيار حتى يأخذ إلى آخره ودل على هذا المقدر حتى الداخلة على قوله يتفرقا.

                                                            وقوله (ويأخذ كل واحد منهما من البيع) أي مما اشتمل عليه عقد البيع من الثمن والمثمن فالبائع بالخيار بين الإجازة فيأخذ الثمن. والفسخ فيأخذ المثمن والمشتري بعكسه.

                                                            وقوله (ما هوي) بكسر الواو وفي لفظ آخر للنسائي من هذا الوجه ما لم يتفرقا ويأخذ أحدهما ما رضي من صاحبه أو هوي وقوله ويتخايران ثلاث مرار ندب إلى تكرير التخاير ثلاث مرار ؛ لأنه أطيب للقلب وأحوط وهو استحباب بالإجماع كما تقدم فيما نعلم ولفظه ومعناه الأمر والله أعلم.

                                                            ورد ابن حزم حديث سمرة بالإرسال فإن الحسن لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وحديث حكيم بن حزام بأن هماما لم يحدث بهذه اللفظة، وإنما أخبر أنه وجدها في كتابه ولم يروها ولا أسندها وقد رواه همام مرة أخرى فترك ذكرها قال: ولو ثبت همام عليها أو غيره من الثقات لقلنا بها؛ لأنها زيادة .




                                                            الخدمات العلمية