الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          مسألة تحديد مواقيت الصلاة والصيام والحج والعيدين في الأقطار

                          ( والعمل بالحساب القطعي )

                          قد نشرت في الجزء الأول من مجلد المنار الثامن والعشرين مقالا طويلا شرحت فيه الأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع وذكرت أقوال الفقهاء وما عليه العمل في الأمصار ثم لخصت خلاصة ذلك كله في المسائل الخمس الآتية :

                          ( 1 ) إن إثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو كإثبات أوقات الصلوات الخمس قد ناطها الشارع كلها بما يسهل العلم به على البدو والحضر لما تقدم من بيان حكمة ذلك ، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات لا التعبد برؤية الهلال ولا بتبين الخيط [ ص: 150 ] الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ; أي : انفصال كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المستطير من جهة المشرق ، ولا التعبد برؤية ظل الزوال وقت الظهر ، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر ، ولا برؤية غروب الشمس وغيبة الشفق لوقتي العشاءين ، فغرض الشارع من مواقيت العبادة معرفتها وما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو إكمال العدة بشرطه قد علله بكون الأمة في عهده كانت أمية أو من مقاصد بعثته إخراجها من الأمية لا إبقاؤها فيها ، قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ( 62 : 2 ) وفي معناه ما ذكره من دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذلك من سورة البقرة ، ويؤخذ منه أن لعلم الكتابة والحكمة حكما غير حكم الأمية .

                          ( 2 ) إن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عبادتها ما أمكن الاتفاق وسيلة ومقصدا ، فإما أن تتفق كلها أو أهل كل قطر منها على العمل بظواهر نصوص الشرع وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت الصلاة والصيام والحج من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند الإمكان ، وبالتقدير أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان ، وفي هذه الحالة لا يجوز لمؤذن الفجر أن يؤذن إلا إذا رأى ضوءه معترضا في جهة المشرق وهو يختلف باختلاف الليالي ; ففي النصف الثاني من الشهر ولا سيما أواخره يرى متأخرا عن الوقت الذي يرى فيه في ليالي النصف الأول المظلمة بقدر تأثير نور القمر في جهة المشرق ( ويختلف باختلاف حالي الصحو والغيم ) وقد قال صلى الله عليه وسلم في رمضان : ( ( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ) ) قال بعض رواته : وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت . رواه الشيخان وغيرهما ، وإما أن تعمل بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت التي جرى عليها العمل في جميع بلاد الحضارة الإسلامية في الصلاة ، ( ولو ) مع المحافظة على الاستهلال ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته للجمع بين ظاهر النص والمراد منه ، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة عماد الدين فهي أفضل من الصوم وأعم ، وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال يكون إثبات الشهر بإكمال العدة ثلاثين ظنيا أو دون الظني ، ومن قواعد الشريعة المتفق عليها أن العلم مقدم على الظن ، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم ، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد .

                          ( 3 ) إذا قيل : إن إفادة الحساب للعلم القطعي بوجود الهلال وإمكان رؤيته خاص بالفلكي الحاسب ، وقد اختلف العلماء في العلم به كما ذكرتم ولا يكون علمهم حجة على [ ص: 151 ] غيرهم ( قلنا ) : إن الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد عللوه بأنه ظن وتخمين لا يفيد علما ولا ظنا كما نقلناه عن شرح البخاري للحافظ ابن حجر آنفا ، والحساب المعروف في عصرنا هذا يفيد العلم القطعي كما تقدم . ويمكن لأئمة المسلمين وأمرائهم الذين ثبت ذلك عندهم أن يصدروا حكما بالعمل به فيصير حجة على الجمهور ، وهذا أصح من الحكم بإثبات الشهر بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما مع عدم رؤية الهلال ليلة الثلاثين والسماء صحو ليس فيها قتر ولا سحاب يمنع الرؤية ; فإن هذا مخالف لنصوص الأحاديث الصحيحة ( وكذا الحكم برؤية الواحد للهلال ; لأن شهادة الواحد ظنية وإن كان عدلا لكثرة ما يعرض فيها من الخطأ والوهم الذي ثبت بالقطع كشهادة بعض العدول برؤية الهلال بعد غروب الشمس كاسفة ) .

                          ( 4 ) يؤيد هذا الوجه الأخير القول الثالث للإمام أحمد فيما يجب العمل به إذا غم على الناس رؤية الهلال ، وهو أن يرجعوا إلى رأي الإمام - أي السلطان ولي الأمر الشرعي - في الصوم والفطر وقد تقدم مع القولين الآخرين له .

                          ( 5 ) إذا تقرر لدى أولي الأمر العمل بالتقاويم الفلكية في مواقيت شهري الصيام والحج ، كمواقيت الصلاة وصيام كل يوم من الفجر إلى الليل ، امتنع التفرق والاختلاف بين المسلمين في كل قطر أو في البلاد التي تتفق مطالعها ، وهذه لا ضرر في الاختلاف في صيامها ، كما أنه لا ضرر في الاختلاف في صلواتها .

                          وجملة القول أننا بين أمرين : إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادات أخذا بظواهر النصوص وحسبانها تعبدية ، وحينئذ يجب على كل مؤذن ألا يؤذن حتى يرى نور الفجر الصادق مستطيرا منتشرا في الأفق ، وحتى يرى الزوال والغروب إلخ ، وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به لأنه أقرب إلى مقصد الشارع ، وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها ، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر عند المانع من الرؤية وتوزع في العالم ، فإذا زادوا عليها استهلال جماعة في كل مكان فإن رأوه كان ذلك نورا على نور ، وأما هذا الاختلاف وترك النصوص في جميع المواقيت - عملا بالحساب ما عدا مسألة الهلال - فلا وجه ولا دليل عليه ، ولم يقل به إمام مجتهد بل هو من قبيل ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ( 2 : 85 ) والله أعلم وأحكم ا هـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية