الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله القائل ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (يوسف:2) ، ( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (الزخرف:3) ، فاختيار الله للعربية، أو اللسان العربي، ليكون أداة التوصيل، ووسيلة الإبانة، ووعاء التفكير للرسالة الخاتمة الخالدة- التي تنتظم جميع شئون الحياة، وتستجيب لمشكلاتها- قضية ذات أبعاد لغوية، وثقافية، وعلمية، وحضارية، حيث لم يعد ينكر اليوم، علاقة التعبير بالتفكير، ودور التعبير في التفكير والإبداع الأدبي والعلمي، والمحاكمات العقلية.. لذلك فمجرد اختيار العربية لتكون لغة التنزيل والإبانة والتوصيل أو بتعبير آخر اختيارها لتكون لغة الله سبحانه وتعالى في مخاطبة البشر في النبوة الخاتمة، التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية جميعا، والتي تحددت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها، بالبلاغ المبين، يعني امتلاكها هـذه [ ص: 7 ] الأبعاد جميعا.. قال تعالى: ( فإنما عليك البلاغ المبين ) (آل عمران:20) .. ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) .

لقد جاء التنزيل باللغة العربية، محل إعجاز وتحد، ليس على مستوى الأسلوب والصياغة فقط، وإنما على الأصعدة المتعددة، اللغوية منها، والفكرية، أو على مستوى التعبير والتفكير معا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا يعني أن العربية أو اللسان العربي، يمتلك من الخصائص والصفات والقدرات التعبيرية، ما لا تمتلكه أية لغة أخرى، أو أي لسان آخر، فاختيار العربية لغة للتنزيل، هـو بلا شك تشريف لها من بين سائر اللغات، وتكليف لها بأداء وتوصيل الخطاب الإلهي للناس بما هـي أهل له.. فلولا الأهلية، لما كان الاختيار.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، الذي أوتي جوامع الكلم، وكان في القمة من الفصاحة، والبلاغة، والبيان، لذلك جاء البيان النبوي قرينا، وملازما، ومفتاحا، ومعيارا، ومرجعا، لفهم التنزيل، قال تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل:44) .. ولذلك لا بد أن يكون البيان النبوي محفوظا بحفظ القرآن، قال [ ص: 8 ] تعالى: ( إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:17-19) .

وبعد،

فهذا كتاب الأمة الثاني والأربعون: (في شرف العربية) ، للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي ، عضو مجمع اللغة العربية، وأستاذ العربية في جامعة صنعاء، باليمن ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، واسترداد شخصية المسلم المعاصر، وإعادة بناء المرجعية الشرعية، وتشكيل مركز الرؤية، في ضوء هـداية ومعرفة وعطاء الوحي، وتجارب ومكتسبات العقل، وتخليصه من الارتهان الحضاري والضلال الثقافي، والأزمات الفكرية، التي يعاني منها، بسبب اضطراب المفاهيم، والتباس المصطلحات، وعدم وضوح الرؤية، ذلك أن الكثير من المصطلحات والمفاهيم، التي نتداولها، وتقذف بها الساحة الفكرية والثقافية، في ثقافة أهله، التي تفرض علينا، وتجعل لها السيادة في حياتنا الفكرية، حتى لتكاد تصبح من المسلمات، التي نفهم من خلالها ثقافتنا، ونقيس بها حضارتنا، [ ص: 9 ] ونقوم بها واقعنا، وننظر من خلالها إلى مستقبلنا، والتي يمكن لها بعضنا بنوع من المقاربات الفكرية المحزنة، التي أقل ما يقال فيها: إنها تخل عن الأصيل لحساب الوافد، وخلط بين التبادل الثقافي والمعرفي، وبين الغزو الثقافي، الذي ينتهي بإلغاء الأمة، وتوهين عالم أفكارها، وهز قيمها، وتغييب قسماتها الحضارية، وصب قيمها الفكرية، في أوعية ومصطلحات غريبة عنها...

ويفوتنا أن حفظ البيان، الذي لا يتحقق إلا بوضوح مصطلحاته ومفهوماته، ودلالات ألفاظه، وإدراك معهود اللغة التي نزل فيها في الخطاب، هـو قسيم حفظ القرآن نفسه.. وأن أي تفريط بالمدلولات أو بالمصطلحات أو بالمفاهيم، يعني العبث والضلال الثقافي، الذي يؤدي إلى الانتحال الباطل، والتأويل الفاسد الجاهل، وأن حفظ البيان، لا يقل من حيث المردود، عن حفظ القرآن، حيث يفتقد الحفظ قيمته العملية إذا فسد البيان.

ولعلنا نقول هـنا: إن صب المعاني القرآنية في أوعية ومصطلحات ودلالات الآخرين، سواء في ذلك استخدام مصطلحاتهم ومفهوماتهم بعد ترجمتها إلى العربية، وإشاعتها في حياتنا الثقافية، أو بترجمة دلالات الألفاظ العربية إلى اللغات غير العربية، هـو لون من الضلال الثقافي، والانتقاص لعملية البلاغ والإبانة، التي جعلت العربية وعاءا [ ص: 10 ] لها. ذلك أن اللغات الأجنبية- إذا افتقدت المرجعية- يمكن أن تعتبر من أخطر معابر الغزو الثقافي إلى الأمة، عند من يدرك علاقة التفكير بالتعبير، أو علاقة التعبير بالتفكير.

بل لعل ذلك يشكل إحدى السبل الخطيرة، لمحاصرة اللغة الأم، وشل نموها وامتدادها، واستمرار عطائها، الذي سوف يحدث بالتالي أخطر الإصابات لعالم الأفكار والقيم، ويفقده القدرة على تمثلها، وحسن التعامل معها.

ومن هـنا ندرك الأبعاد الكاملة- على مستوى الفكري والثقافي- لاتجاه الذين يمنعون تعلم اللغات الأجنبية، قبل سن الثانية عشرة، حيث تعتبر هـذه السنوات الإثنتا عشرة، هـي سنوات بناء المرجعية بالنسبة للإنسان.. وندرك أيضا أسباب بعض الخلل والإصابات الثقافية التي نعاني منها.

فإذا سلمنا عقلا وواقعا، أن خاتمية الرسالة، وتوقف التصويب، يقتضي حفظ النص الإلهي، سليما من أي تحريف، أو انتقاص، حتى يكون التكليف صحيحا، يترتب عليه الثواب والعقاب، وفقا لمقتضيات العدل الإلهي المطلق، حيث لا يمكن أن نتصور أن يخاطب الناس، بنصوص محرفة، أو منحولة، فإن حفظ المصطلحات والدلالات القرآنية، من خلال البيان النبوي، ومعهود العرب في الخطاب، يعتبر أيضا من لوازم الخاتمية، إذا لا قيمة لحفظ النص، وغياب بيانه، والانحراف بمدلولاته، وتحريف مقاصده، وعدم استصحاب البيان النبوي، ومعهود العرب في [ ص: 11 ] الخطاب، أثناء النظر فيه.

لذلك كان البيان النبوي عصمة للنص القرآني من التحريف، وهو الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، أو من التأويل الفاسد، الذي يتجاوز البيان النبوي، كمرجعية، ومعهود العرب في الخطاب، كضوابط منهجية.

لذلك نقول: لا بد من التنبه إلى ضرورة المحافظة على المصطلحات القرآنية، أو الإسلامية بشكل عام، والاحتفاظ بمدلولاتها، والعمل على وضوح هـذه المدلولات في ذهن الجيل؛ لأن هـذه المصطلحات، هـي نقاط الارتكاز من الناحية الثقافية والحضارية، وهي المعالم الفكرية التي تحدد هـوية الأمة بما لها من رصيد نفسي، ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة.. إنها أوعية النقل الثقافي، وأقنية التواصل الحضاري.. وعدم تحديدها، ووضوحها، يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة، والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري، والإلغاء لامتدادها المعرفي، والهبوط بها إلى مستوى التلقي الحضاري والثقافي الوافد. [ ص: 12 ]

والأمر الذي لا بد من إيضاحه هـنا: أن الدعوة إلى المحافظة على المصطلحات، ومدلولاتها، لاتتعارض مع الامتداد بها، والتطوير لهذه المدلولات، بشرط استصحاب المعنى الأصلي، وعدم الخروج عليه.

وقد نبه القرآن لهذه القضية الخطيرة عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة استخدام مصطلح (انظرنا) ، ونهى عن مصطلح (راعنا) ، الذي كان يستعمله ويشيعه يهود، كنوع من التضليل الثقافي، وتحقيق بعض الأغراض الكامنة في نفوسهم، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) (البقرة:104) .

إن أهمية تحديد المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، في البناء الفكري والثقافي للأمة، أمر ذو قيمة فكرية بالغة، إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين والباحثين، يفردون صفحات في مقدمة مؤلفاتهم، لمعجم المصطلحات المستعملة، والدلالات التي أرادوها، من استعمال هـذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة فكريا وثقافيا، حتى يتحقق الوضوح، ولا يحمل الكلام أكثر مما يحتمل، ولا يقول الإنسان ما لم يقل، حتى لقد بلغ الأمر اليوم، أن تفرد معاجم لمدلولات كل علم من العلوم، كمعجم المصطلحات الفلسفية، ومعجم المصطلحات الدبلوماسية، ومعجم المصطلحات النفسية...الخ. [ ص: 13 ]

وقد نستغرب أو لا نستغرب، أننا نحن المسلمين قد سبقنا إلى وضع معاجم لمصطلحات كثير من الفنون: لغوية، أو فقهية، أو أصولية، أو غيرها، حتى يضبط اللفظ بمدلولاته، من خلال معهود العرب في الخطاب، والإبانة، أو من خلال مدلوله من حيث المراد به، في الفن، الذي وضع له، دون الانقطاع عن أصله اللغوي.. ولا نكاد نجد كتابا من كتب أصول الفقه، إلا وفصل: (دلالات الألفاظ) ، يأخذ مساحة كبيرة فيه.

وقد لا نرى ضيرا أن نقول: إن وضع علم النحو والصرف، وتقعيد القواعد، إنما كان في الحقيقة، سبيلا إلى حماية الألفاظ والدلالات القرآنية، وضبطها بمعهود العرب في الخطاب، حيث نزل بلسان عربي مبين، حتى لا يكون إسلام أصحاب اللغات الأخرى سبيلا إلى التيه الدلالي والاصطلاحي، حتى إن كثيرا من علماء اللغة، كابن هـشام ، رحمه الله -فيما روي عنه- عندما طلب إليه أن يضع لطلبته كتابا في التفسير للقرآن، وضع لهم كتاب: (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) ، لضبط دلالات الألفاظ، والأدوات، ومعانيها، حتى يدرك المصطلح القرآني، بكل احتمالاته... وكانت معظم شواهده، واستدلالاته من النص القرآني، والبيان النبوي، وكلام العرب من حقبة السلامة اللغوية. [ ص: 14 ]

وهنا قضية، قد يكون من المفيد، الإتيان عليها ولو سريعا، وهي أن بعض العاملين للإسلام، قد يرى فائدة من استعارة مصطلحات الآخرين، واستخدامها كمفاتيح فكرية، ومداخل ثقافية للتعامل معهم، وإيصال بعض المعاني الإسلامية إليهم، من خلال مصطلحاتهم، بنوع من المقاربة، وقد أجاز كثير من العلماء ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأخرى، لتعريف أهلها بالإسلام وكتابه.. وهذا إن صح في البدايات، لا يجوز أن يصح في النهايات، لأن الله اختار العربية لتكون وعاء التنزيل، وأداة الإبانة، فلا ننزله، في غير وعائه، ولا نبينه بغير أداته، خاصة وأن من المسلم به لغويا وفكريا، أن إدراك أبعاد النص تماما لا يمكن أن يكون بغير الأصلية، وأن عجمة اللسان، يمكن أن تؤدي إلى عجمة العقل والقلب، وعجمة التعبير سوف تقود إلى عجمة التفكير.

وقضية معهود العرب في الخطاب -من حيث السلامة في اللفظ، والإبانة في المعنى- كضابط منهجي، ومعيار، لأي تفسير، أو تأويل، أو قراءة في معاني النص الإلهي، أو لبيانه النبوي، تعتبر من الشروط والموازين اللغوية الأساسية، التي لا بد أن يخضع لها الكلام، من حيث مبناه، وتحدد في ضوئها، دلالات الألفاظ، وأطر المعاني، على الرغم من أن اللغة أداة توصيل وتفكير- كما أسلفنا- وليست [ ص: 15 ] مصدرا للأحكام، وعلى الرغم، من أن الكتاب والسنة، هـما يحكمان على اللغة ولا تحكمهما، أو تحكم عليهما؛ لأنهما في القمة، من التعبير، والبلاغة، والإعجاز، وعلى الرغم من أنهما أضافا دلالات عرفية، ومصطلحات شرعية، لم تعرفها اللغة قبل التنزيل، علما بأن هـذه المصطلحات الشرعية الجديدة الإضافية، لم تخرج عن الدلالات اللغوية الأولى في معهود العرب، وإنما استصحبتها وطورتها، وهذا جميعه لا ينبغي أن ينفي، أو يلغي اعتماد معهود العرب في الخطاب، لتحديد الدلالات، وفك الالتباس.

ومن هـنا رفض العلماء أي تفسير، أو تأويل باطني، أو ذوقي، أو عرفاني، أو صوفي، مدع للفيض الإلهي، أو ما يمكن أن يأتي ثمرة للتجارب، والرياضيات الذاتية؛ لأنه لا يخضع لمعهود العرب في الخطاب والبيان -والقرآن نزل بلسان عربي مبين- ولا يضبط بضوابط الشريعة، ولأن ذلك يفتح الباب على مصراعيه، لكسر موازين اللغة، وتحريف دلالاتها، ويشكل منزلقا ومدخلا، ينتهي إلى أن يقول في كتاب الله وسنة رسوله، كل من شاء، ما شاء، كما يؤدي إلى الغيبوبة اللغوية، واستحكام الأزمات الثقافية، والفوضى في المفاهيم، وبعثرة رقعة التفكير الجماعية، وتمزيق نسيج الأمة الثقافي، والنيل من الثوابت العامة للأمة.. [ ص: 16 ]

لذلك كانت ولا تزال، الإصابات الباطنية والصوفية المنحرفة، على الأمة، من أخطر الإصابات، سواء على مستوى اللغة، والفكر، أو على مستوى العقيدة والعبادة، أو على مستوى السياسة والاجتماع..

وقد يكون الأمر الخطير حقا اليوم، محاولات إيقاف هـذه النزعات، تحت شعارات علمية، ونظريات معرفية (أبستمولوجية) ، تعتبر أن هـذه الاتجاهات، تمثل النظام المعرفي الأمثل!

ولقد تنبه علماؤنا رحمهم الله تعالى إلى هـذه القضية المهمة، وكانوا يدركون تماما أن العربية من الدين، وأنه لا سبيل إلى فهم العقيدة والتزام الشريعة بغير العربية، وبذلك يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790هـ ، في الموافقات: (إن هـذه الشريعة المباركة العربية، فمن أراد تفهما فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هـذه الجهة ... ) .

لذلك رأينا علماء الأصول يفردون في كتبهم مباحث نفيسة للغة العربية ودلالاتها، باعتبارها وسيلة لفهم الشريعة- كما أسلفنا- ومن هـنا يقول الإمام الشافعي رحمة الله (150 -204هـ ) ، وهو أول من أصل الأصول: (فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويتلو [ ص: 17 ] به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، ومن التسبيح، والتشهد وغير ذلك ... ) .

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (661-728هـ ) يقول: (فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ... ) (اقتضاء الصراط المستقيم، 1 / 69 ) .

" ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (تعلموا العربية فإنها من دينكم... " . والأمر الذي نرى أهمية التأكيد عليه، ولفت النظر إليه، هـو أن قوله تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124) ، لا يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقط، من بين سائر الناس، ولا يختص بزمانه فقط، من بين سائر الأزمان، ولا يختص بقومه-العرب- فقط، الذين يشكلون القاعدة الأولى لحمل الرسالة وبيانها، من بين سائر الأقوام، ولا يختص بجغرافية مكانه فقط، دون سائر الأمكنة، ولا يختص بلغته فقط، وقدرتها على الاستيعاب والاستجابة والإبانة، دون سائر اللغات، وإنما يشمل ذلك كله، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، نبيا، وزمانا، ومكانا، وقوما، وأرضا، ولسانا، لما يتوفر في ذلك كله من الخصائص والصفات التي تجعلها [ ص: 18 ] محلا لذلك.

فاختيار العربية لتكون لغة التنزيل للخطاب السماوي، أو لتكون لغة خطاب الله الأخير إلى البشر، له دلالته من أكثر من وجه.

فإذا سلمنا أن من مقتضى الخاتمية، أو من لوازمها، الخلود- والخلود يعني: التجرد عن قيود الزمان والمكان، والقدرة على العطاء والإنتاج العلمي والمعرفي، في كل زمان ومكان- أدركنا خلود اللغة العربية، وسعتها، ومرونتها، وقدرتها على تقديم الأوعية التعبيرية، والاستجابة لكل الظروف والأحوال، التي يكون عليها الناس، والاستجابة للإنتاج الحضاري، في سائر العلوم والفنون، حتى يرث الله الأرض، ومن عليها. ولسنا بحاجة الآن للتدليل على سعتها، وقدرتها، وغناء مفرداتها، وكثرة مترادفاتها، التي تمتلك التعبير عن كل حالة شعورية، ولا يضيق لفظها عن استيعاب أي معنى، ولا يضيق سلمها الصوتي عن النطق بأي حرف، مهما كان معقدا في اللغات الأخرى.

ولقد حدثني بعض المبتعثين إلى الدول غير العربية، أن أصحاب اللسان العربي، من المبتعثين الذين يدرسون باللغات الأخرى، هـم الأكثر تفوقا في النطق بتلك اللغات، كأهلها، وأنهم يختارون من بين سائر أبناء اللغات الأخرى، لتميز نطقهم؛ لأن حروف اللغة الأم [ ص: 19 ] عندهم (العربية) ، لم تعطل من السلم الصوتي، أي جانب يعيق عن النطق بأي حرف، مهما كانت تعقيدات لفظه... أما نبوغهم في المجالات العلمية والمعرفية، حيث يتوفر لهم المناخ المناسب، فتلك قضية أخرى.

وحسبنا أن نقول: إن التنزيل الخالد، الممتد إلى نهاية الزمان، والذي وصف الله أبعاده ومداه، بقوله: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) (الكهف:109) ، وقوله: ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) (لقمان:27) ، والذي كانت العربية، وعاءه الخالد، هـو الذي يجعلنا ندرك الطاقة التي تمتلكها العربية، والشرف الكبير، بجعلها لغة التنزيل، ويجعلنا ندرك أيضا التخاذل اللغوي والثقافي، الذي نعاني منه المسلمون اليوم، وكيف أن المشكلة ليست في قدرة اللغة، وإنما في تخلف وعجز أهلها.

إن الجهود العظيمة التي قام بها علماء اللغة، بصرفها، ونحوها، وفقهها، وما قام به علماء أصول الفقه، من البحث في دلالات الألفاظ، وما قام به علماء الإعجاز والمفردات القرآنية، لحراسة اللغة وحمايتها، والمحافظة على معهود العرب، وحماية النص [ ص: 20 ] الإلهي من التحريف والتأويل الفاسد... هـذه الجهود في الحقيقة، يمكن أن تعتبر ثمرة لخلود اللغة، وحفظها بحفظ الذكر المنزل من الله بها، إذ لا يمكن أن يتحقق حفظ النص الذي تعهد الله بحفظه، ويحمى من التحريف والتأويل، بدون حفظ لغته، لغة التنزيل.

لكن المشكلة أن هـذا الحفظ، بكل مدلولاته الشكلية، والموضوعية، سوف ينتهي إلى الجمود والتجميد، إذا توقف عن الإنتاج الحضاري والتقني، والإبداع العلمي، في ضوء المرجعية الشرعية واللغوية، ذلك أن علوم اللغة جميعا هـي من علوم الآلة، أو من علوم الوسائل، التي يبذل فيها الجهد لتحقيق المقاصد والأهداف.. وكم ستكون المشكلة صعبة، ومعقدة، من الناحية الفكرية والثقافية، إذا انقلبت الوسائل إلى أهداف، وتعطلت الآلة عن التشغيل، ودخلت الجهود اللغوية مرحلة التكرار، والشرح، وشرح الشرح، والاختصار، واختصار الاختصار، والاجترار، وغياب استخدام اللغة للإبداع والإنتاج العلمي، والتقني، والحضاري.

وإذا كان ما تقوم به المجامع اللغوية، من إصدار معاجم حديثة نسبيا (وإن كانت دون المطلوب والمأمول) بما تتضمنه من مصطلحات منحوتة، حديثة، ومعربة، وإصدار بعض المطبوعات التراثية الجديدة والمحققة، وما توصي به سنويا من ضرورة الاهتمام بتعريب التعليم، [ ص: 21 ] وتعريب العلوم، فإن ذلك يعني فقط حماية اللغة، والمحافظة عليها.. ولكن يبقى الأمر الأهم هـو: المحافظة على حياة اللغة، واستمرارها، وتجاوز مسألة الحفاظ على المفردات في التعبير عن المعاني والمدلولات العلمية والتكنولوجية الجديدة، وعدم الاقتصار على حمايتها، من الأمور الأساسية في البناء الفكري والحضاري للأمة... لكن تصبح عملية الحفاظ هـذه، مشكلة، إذ توقفنا عند حدودها، ولم نتجاوزها إلى تذليل وتطوير عملية تعليم اللغة، والإفادة من التقنيات الحديثة والمعملية في تعليم اللغات، وتقديم الإبداع العلمي والثقافي والحضاري، وتقديم المعالجات الناجعة للمشكلات الإنسانية، التي تغزي الآخرين بتعلم اللغة العربية.

ولعلنا نقول هـنا، مع شديد الأسف: إن الكتاب العربي اليوم، في مجمله، بما يقدم من التكرار، والتقليد، والإعادة، وغياب الإبداع والابتكار، لا يغري بتعلم العربية- هـذا إن كان لا يغري بتجنبها- فما قيمة أن نتكلم عن قدرة العربية، ونفكر- في الوقت نفسه- بعقول غيرنا، ونعبر بلسان غيرنا؟ لقد انتهى المسلم اليوم للجوء إلى تعلم اللغات الأخرى، للاطلاع على ما وصلت إليه الحضارة من الإبداع والإنجاز- الذي أصبحت معرفته ضرورية لإنسان العصر، [ ص: 22 ] وأصبح لا مناص له من تعلم لغة أهله- وذلك بسبب التخاذل اللغوي الذي يعيشه، وتوقف لغته عن الاستمرار في الإبداع، والإنتاج الحضاري.

وقد تكون المشكلة الفكرية والثقافية، فيمن يقفون عند حدود علوم اللغة (علوم الآلة، وعلوم الوسائل) ، في أنهم يتعلمون ليقرأوا، ويقفون عند حدود تعلم الوسيلة، دون القدرة على القراءة المبصرة، والعطاء المأمول، بينما قد يكون المطلوب أن يقرأوا ليتعلموا، ويبدعوا.

ويحضرني بهذه المناسبة، معلومة لافتة للنظر حقا، كان أوردها المستشرق الفرنسي ( جاك بيرك ) ، في إحدى محاضراته: من أن أحد الباحثين في علوم اللغة بالمغرب، استمع إلى محاضرة للدكتور طه حسين هـناك، وأحصى عليه أكثر من سبعة عشر خطأ لغويا، أو نحويا!! فقلت في نفسي: كم من القضايا والإشكاليات الثقافية واللغوية، التي أثارها طه حسين، ولا تزال تداعياتها مستمرة في حياتنا الفكرية، حيث أصبح لها تلامذة، وتابعون، ومروجون، وإن كانت لا تخرج في حقيقها عن أن تكون رجع الصدى للمستشرقين؟! وكيف أن هـذا الباحث الذي توقف عند حدود علوم الآلة، ولم يتجاوزها إلى توظيف هـذه الآليات في الإنتاج والإبداع، [ ص: 23 ] لم يظهر اسمه وصوته، إلا على هـوامش محاضرة طه حسين، ومن ثم غاب من بعدها؟! فما قيمة علم الوسائل، إذا وقفنا عند حدوده، ولم نستعمله؟!.

نعود إلى القول: لا شك أن علم الوسائل، يشكل حماية، وحراسة، وحفاظا على اللغة، لكن إذا لم يتم تفعيله وتشغيله بالإنتاج والإبداع، سوف ينقلب إلى قوالب تجميد وجمود للغة.. فتنقلب الألفاظ، لتصبح قبورا للمعاني، بدل أن تكن أوعية لحملها ونقلها، وتحقيق الانفعال بمعناها، والتنمية لإنسانها.

وفي اعتقادي لو أننا اجتزأنا قدرا من مواقفنا الدفاعية عن اللغة، وقدرتها، ومرونتها، وخلودها... الخ، لإنضاج بعض البحوث في تطويرها وتذليل تعليمها، لغير الناطقين بها، وإبداع بعض العلوم والفنون التي لا تتحصل إلا بتعلمها، لتغير الحال، ولدبت فيها الحياة.. وقد لا يكون مستغربا ونحن على هـذه الحال من التخلف والتخاذل الفكري وبعد مضي أكثر من نصف قرن على حركة الوعي الإسلامي الحديثة، وإلى الآن، لم نقدم بعد جهدا مقدورا في تطوير تعليم اللغة، أو تخديم التقنيات الحديثة لمصلحتها، وقد بلغ تطور اللغات الأخرى شأوا بعيدا، وأصبح لكل فن من فنون القول، وكل علم أو فن من العلوم، والفنون، طريقة، بل طرقا لتعلمها وتعليمها. [ ص: 24 ] والعجيب الغريب، أن تتسع اللغة اليابانية لكل المنجزات العلمية والتقنية، على الرغم من عقم أبجديتها، وطريقة كتابتها، ومحدودية مفرداتها.. وأن تتسع اللغة الصينية للإنجاز والإنتاج الحضاري.. وأن تحيا العبرية، وتسترد من بطون التاريخ، والمتاحف، وتنفخ فيها الروح، لتصبح لغة العلم، والدين، والسياسة، وحتى التعبير عن أدق المصطلحات والمبتكرات العلمية، في الفيزياء والرياضيات الحديثة، وتنشر بها البحوث والدراسات، وتصدر المجلات المتخصصة، ويضطر المعنيون بهذه الموضوعات، من أبناء الأديان واللغات الأخرى، إلى تعلمها للاطلاع على إنتاجها (‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!) في الوقت الذي تنحسر فيه اللغة العربية، بانحسار أهلها، ونكوصهم الحضاري، إلى درجة يحاول معها بعضهم أن يخرج العربية من ساحة ولغة العلم نهائيا، ويحاصرها بالمتاحف والمعابد (‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!) فلغة المعهد عنده، غير لغة المعبد والمسجد، والعربية لا تصلح أن تكون لغة العلم والمعرفة، فليقتصر فيها على لغة العبادة والترتيل لآيات القرآن (‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!) ولتعزل عن الحياة، وتفصل عن الدولة وحركتها اليومية، ومعاملاتها الرسمية، ومعاهدها، ومدارسها، وجامعاتها، ومراجعها، ومناهجها؛ لأنها ليست لغة العلم، ولا الحضارة ولا المراجع (‍‍‍‍‍‍‍‍!) وشيئا فشيئا تصير كالسريانية، وغيرها من اللغات البائدة، التي [ ص: 25 ] انتهت إلى المتاحف ودور الآثار، وبعض المعابد، حيث تمارسها طبقة من رجال الدين، تردد ترانيمها، للتبرك، دون أن تعي منها شيئا، لا هـي، ولا من يستمع إليها.

وطالما أن اللغة وسيلة تخاطب وتوصيل للمعاني فقط، لا علاقة لها بالتفكير والثقافة والتراث- في زعم بعضهم- فلا يهم أن تكون أية لغة، أو أية لهجة، أو أية ترجمة.. ولا يهم أن تسود العاميات؛ لأن الأصل أن يتفاهم بها الناس، حتى ولو كانت سببا في انقطاع الأمة عن مخزونها التاريخي والتراثي، ورصيدها العلمي، وإلغاء ذاكرتها، وتوقف النقل الثقافي بين أجيالها‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

وتتأكد خطورة ذلك أكثر فأكثر، في إطار اللغة العربية، لغة التنزيل، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، أو بعبارة أدق: لغة ما تعتز به الأمة المسلمة، من أنها أمة الإسناد، ومنهج النقل، إلى جانب منهج العقل.. ذلك أن أي عدوان أو انتقاص من اللغة، يعني إلغاءا للأمة، وتقطيعا لأوصالها، وتمزيقا لثقافتها، وتاريخها، وتراثها.

فإذا كان العلماء المحققون، والباحثون الجادون اليوم، على مستوى اللغة نفسها، يحاولون تجاوز فهوم أبناء اللغة المعاصرين أنفسهم، ويعودون للبحث عن الأصول والمخطوطات، يعودون للمعاجم لدراسة [ ص: 26 ] مدلولات الألفاظ، ويدرسون أيضا رسم الخطوط ليتمكنوا من القراءة، وليصلوا إلى الصورة الحقيقية، والمدلولات الدقيقة للوحي الإلهي، ولنص الكتب، والمعاهدات، والمقررات، والعقائد، والأديان... فما بالنا نحن المسلمين، وعلى مستوى القيادات، نرى أنه بالإمكان أن نكون مسلمين، وأن يكون فهمنا للإسلام من خلال التصور الذي رسمته لنا الكتب المترجمة؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍

ونعود للتأكيد مرة أخرى، أن الدعوة لتعلم لغة العقيدة، والتعرف على العقيدة من خلال لسانها، لا يعني إلغاء الترجمة، وبيان الإسلام باللغات الأخرى، ولا التقليل من قيمة هـذه الجهود المشكورة، التي أضاءت الطريق لكثيرين، ووصلتهم بالإسلام ولا تزال، ولا أن نتخذ موقفا معاديا لها، وإنما نقول: إن العربية هـي الوسيلة الوحيدة في نهاية المطاف، لفهم الإسلام...

ويمكن أن نلمح ذلك من أن الإسلام لم يقم وزنا لقضية الأجناس، والألوان، والأقوام، حسبها أنها فوارق قسرية، ليس من المقبول عقلا أن تكون ميزان تمييز وتفاضل، ولو كان ذلك كذلك لكان الظلم عينه، وكانت وسيلة وسبيلا للصراع والاقتتال..

ومن هـنا أيضا نلمح البدائية العجيبة عند الذين كانت القوميات، [ ص: 27 ] والعصبيات، والعنصريات، والألوان، والنزعات العرقية، مناط دعوتهم، وهدف حركتهم... وعلى الرغم من أن الإسلام لم يقم وزنا لهذه الفوارق القسرية كلها، إلا انه لم يتنازل عن قضية العربية؛ لأن اللغات مكتسبة، وتعليمية، ولا بد منها لصيانة الأمة الواحدة، وتشكيل أوعية متجانسة للعقيدة الواحدة، التي تحفظ روح الأمة، وتعبر عن إرادتها.. ولذلك نرى التطبيق العملي لهذا في حياة المسلمين من غير العرب، حيث لم يعتبر أحدهم أن بإمكانه الاستغناء عن العربية، والاقتصار على ما يفهم من الإسلام بلغته، أو من أبناء جنسه الذين أسلموا وتعلموا العربية، بل كانت العربية غاية مناه، ووسيلة فهمه لإسلامه وعقيدته، فكان منهم مؤلفون، وعلماء ومفسرون، ومؤرخون، وأصوليون، أدركوا من مدلولات الخطاب ما أدركه العرب أنفسهم، بل وصلوا إلى مرتبة الإمامة في اللغة، والفقه، والتفسير، والحديث، وما إلى ذلك من العلوم، التي لا تتوفر إلا لمن أتقن العربية وعلومها...

ولا شك أن اللغة- كما أشرنا- إحدى مقومات الأمة، إن لم تكن هـي المقوم الأساس؛ لأنها سبيل توصيل العقيدة، تحقيق الانفعال بها، وصياغة الأمة، وتنظيم نمط تفكيرها، وإعادة بناء نسيجها، [ ص: 28 ] وحماية ذاكرتها، وبناء سياجها الثقافي، والحيلولة دون اختراقه، لذلك لم يقم الإسلام وزنا للأجناس، والأعراق، والألوان- كما أسلفنا- ولم يعتبرها وسيلة تفاخر وتفاضل، لكنه لم يتنازل بحال من الأحوال عن أمر اللغة؛ لأنها الميثاق الجامع، والصعيد المشترك، والقاعدة الثقافية والفكرية، والحصن العقلي للأمة، ووسيلتها إلى الترقي والنهوض.. فالله سبحانه خلق أول ما خلق، القلم، وجاء في الكتب المقدسة السابقة للإسلام: أنه في البدء كانت الكلمة، وكانت أولى التعاليم السماوية، بعد الخلق الأول: تعليم الأسماء قال تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) .. وبدأت الرسالة الخاتمة بكلمة (اقرأ) .. والعربية اللسان، وليست الجنس ولا الجغرافيا.

واللغة هـي المقوم الأساس لإنسانية الإنسان، فالحيوان له أصوات محدودة والإنسان له لغة، لذلك يعرف الإنسان بأنه كائن لغوي، يسمع، ويقرأ، ويفكر باللغة.. يفكر الإنسان بالكلمات.. والكلمات والأسماء، رموز للأشياء.. وقد لا يعرف أبن آدم حقائق الأشياء، التي يتعامل معها، ويكتشفها شيئا فشيئا، لكن طريقه إلى إدراكها: معرفة أسمائها.. وهذه الأسماء أو الرموز، لها مخزون [ ص: 29 ] معنوي شعوري، فهي تؤثر في الإنسان فرحا، وحزنا، وانفعالا.. فالأسماء لا تكسب اتجاها عاطفيا. لذلك نقول هـنا: إن أخطر ما تواجه الأمم، هـو التعبير بأوعية الآخرين، والتفكير بوسائل وأدوات وآليات الآخرين، وإن عدم التعريب، يعني: التغريب، مهما حاولنا اعتبار اللغة أداة توصيل، وهمشنا دورها في التفكير، وتجاهلنا علاقة التعبير بالتفكير والنقل الثقافي، وما تتضمنه مفردات اللغة من شحنات ومؤثرات لصناعة الشخصية، وبنائها وتشكيلها.

وفي اعتقادي أن البحث في أهمية التعريب، يجب أن لا ينصب على المبدأ والأساس؛ لأنه من المسلمات العقلية، والعلمية، والحضارية، والثقافية، والذي يتعلق بأصل الوجود، بأبعاده الثلاثة: الماضي بمخزونه الثقافي، والحاضر وعلاقته به، والمستقبل ودور هـذا المخزون التاريخي، في تشكيله، وإنما لا بد أن يتجه إلى الوسيلة والتطبيق، فلا يمكن أن يتحقق النمو والنهوض والبناء الحضاري، بغير اللغة.. والاستقراء التاريخي، وقراءة الحاضر، يدلان على أنه لا يوجد بلد ارتقى بغير لغته. [ ص: 30 ]

ومن هـنا ندرك لماذا تلزم بعض الدول -حفاظا على كيانها وثقافتها- مواطنيها، وتمنعهم من استخدام ألفاظ أو عبارات أجنبية، طالما أن هـناك ألفاظا أو عبارات مماثلة تؤدي المعنى ذاته، في اللغة الأم.

حتى لقد شرعت فرنسا في مايو الماضي (1994) ، عقوبة للذي يستخدم غير الفرنسية، في الوثائق والمستندات، والإعلانات المسموعة، والمرئية، وكافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية، وبوجه خاص المحلات التجارية، والأفلام الدعائية، التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون.. وأوصت بعقوبة السجن أو الغرامة المالية، التي تصل إلى ما يعادل ألفي دولار.. وهذا القرار، جاء في مواجهة هـجمة اللغة الإنكليزية، التي أوصلتها الأقمار الصناعية إلى بيوت الفرنسيين، في محاولة لاستنقاذ التراث الفرنسي المهدد بالإغراق اللغوي (انظر صحيفة الخليج الإماراتية، العدد 5502، بتاريخ 7 / 6 /19994، ص9) ... فأين هـذا من معاناتنا اللغوية، أو مأساتنا اللغوية، في مدارسنا، وجامعاتنا، ومعاهدنا، ومحلاتنا التجارية، والعمالة في بيوتنا، ودوائرنا الرسمية، التي تمارس علينا، أو تفرض علينا عملية التعجيم، وتكسير موازين وقواعد اللغة العربية؟‍‍‍‍‍ إنهم يعجموننا، بدل أن نعربهم. [ ص: 31 ]

وبعد،

فالكتاب الذي نقدمه اليوم، عن شرف العربية للدكتور إبراهيم السامرائي ، عضو مجامع اللغة العربية يمكن أن يعتبر إحدى الإسهامات البارزة على طريق استرداد الذات، وحمايتها من التذويب والذوبان، وتحديد ملامح وقسمات الشخصية الحضارية الإسلامية، في محاولة سلسة كتاب الأمة، لإعادة بناء المرجعية للمسلم المعاصر، بعد أن كادت تنتقص، وتبصيره بمقومات الشهود الحضاري، وتعريفه على شرف العربية، وقدرتها، وحيويتها، وحياتها... وكيف أنها تتطلب اليوم، العزمة الصادقة، والإنتاج المقدور، في المجال العلمي، والمعرفي، والإنساني، وتبسيط وسائل تعلمها وتعليمها، لرفع الحواجز بين الإنسان والإسلام، وحتى يصبح المسلم قادرا على شحذ فاعليته، واستثمار طاقاته الروحية والمادية، فيستأنف دوره من جديد في حمل الأمانة، استجابة لتكليفه تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) .. فلا شهادة، ولا شهود، بعيدا عن التنزيل، ولغة التنزيل، بلسانها العربي المبين. والله الهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية