الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين : ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : "عابد " ، فجعل"عبد " ، فعلا ماضيا من صلة المضمر ، ونصب"الطاغوت " ، بوقوع"عبد " عليه .

وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : ( وعبد الطاغوت ) بفتح"العين " من"عبد " وضم بائها ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه . وعنوا بذلك : وخدم الطاغوت .

12226 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثني حمزة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ : ( وعبد الطاغوت ) يقول : خدم ، قال عبد الرحمن : وكان حمزة كذلك يقرؤها .

[ ص: 440 ] 12227 - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش : أنه كان يقرؤها كذلك .

وكان الفراء يقول : إن تكن فيه لغة مثل "حذر " و"حذر " ، و"عجل " ، و"عجل " ، فهو وجه ، والله أعلم وإلا فإن أراد قول الشاعر :


أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم عبد



فإن هذا من ضرورة الشعر ، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة فلا .

وقرأ ذلك آخرون : ( وعبد الطاغوت ) ذكر ذلك عن الأعمش .

وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد جمع الجمع من "العبد " ، كأنه جمع "العبد " "عبيدا " ، ثم جمع "العبيد " "عبدا " ، مثل : "ثمار وثمر" .

وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) .

12228 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال : كان أبو جعفر النحوي يقرؤها : ( وعبد الطاغوت ) ، كما يقول : "ضرب عبد الله" .

[ ص: 441 ] قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا معنى لها ، لأن الله تعالى ذكره ، إنما ابتدأ الخبر بذم أقوام ، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت . وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عبد ، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية ، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجه إليه في الصحة .

وذكر أن بريدة الأسلمي كان يقرؤه : ( وعابد الطاغوت ) .

12229 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شيخ بصري : أن بريدة كان يقرؤه كذلك .

ولو قرئ ذلك : ( وعبد الطاغوت ) ، بالكسر ، كان له مخرج في العربية صحيح ، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها ، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها . ووجه جوازها في العربية ، أن يكون مرادا بها "وعبدة الطاغوت " ، ثم حذفت " الهاء " للإضافة ، كما قال الراجز :


قام ولاها فسقوه صرخدا



يريد : قام ولاتها ، فحذف"التاء " من"ولاتها " للإضافة .

قال أبو جعفر : وأما قراءة القرأة ، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما ، [ ص: 442 ] وهو : ( وعبد الطاغوت ) ، بنصب"الطاغوت " وإعمال "عبد " فيه ، وتوجيه"عبد " إلى أنه فعل ماض من"العبادة" .

والآخر : ( وعبد الطاغوت ) ، على مثال"فعل " ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه .

فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجا في العربية منهما ، فأولاهما بالصواب من القراءة ، قراءة من قرأ ذلك ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : ( وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومن عبد الطاغوت ، وأن النصب ب"الطاغوت " أولى ، على ما وصفت في القراءة ، لإعمال "عبد " فيه ، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها .

على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"من " و"الذي " المضمرين مع"من " و"في " إذا كفت"من " أو"في " منهما ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه . وكان الذي يحيل ذلك يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز .

وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح . فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة . وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام ، قد اختاروا القراءة بها ، وإعمال و"جعل " في"من " ، وهي محذوفة مع"من" .

ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا فيهم لا يتناكرونه ، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره . فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين [ ص: 443 ] اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما .

وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الآية : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ، من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت .

وقد بينا معنى"الطاغوت " فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .

وأما قوله : " أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل " ، فإنه يعني بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصف صفتهم فقال : " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " ، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل .

يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم " شر مكانا " ، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نقمتم عليهم يا معشر اليهود إيمانهم بالله ، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب ، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء " وأضل عن سواء السبيل " ، يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك ، أيها اليهود ، أشد أخذا على غير الطريق القويم ، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم .

قال أبو جعفر : وهذا من لحن الكلام . وذلك أن الله تعالى ذكره إنما [ ص: 444 ] قصد بهذا الخبر إخبار اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه ، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم ، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير ، خطابا منه لهم بذلك ، تعريضا بالجميل من الخطاب ، ولحن لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن ، وعلم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له : قل لهم ، يا محمد ، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم شر ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقول ذلك لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية