الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 227 ] المسألة الثانية :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } قال علماؤنا : هذا تأديب من الله لرسوله ، أمره فيه أن يعلق كل شيء بمشيئة الله إذ من دين الأمة ومن نفيس اعتقادهم ( ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ) لا جرم فلقد تأدب نبينا بأدب الله حين علق المشيئة بالكائن لا محالة ، فقال يوما وقد خرج إلى المقبرة : { السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } .

                                                                                                                                                                                                              وقال أيضا : { إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : فإذا ثبت هذا فقاله المرء كما يلزمه في الاعتقاد ، فهل يكون استثناء في اليمين أم لا ؟

                                                                                                                                                                                                              قال جمهور فقهاء الأمصار : يكون استثناء .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القاسم ، وأشهب ، وابن عبد الحكم ، وأسامة بن أحمد بن محمد عن أبيه عن مالك . إن قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } . إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو والغفلة وليس باستثناء .

                                                                                                                                                                                                              وهذا الذي قال مالك رضي الله عنه لم أجد عليه دليلا ; لأن ربط المشيئة ، وذكرها قولا من العبد لفعل العبد ، فقال لعبده : لا تقل إني فاعل شيئا فيما تستقبله إلا أن يشاء الله ، تقديره عند قوم : إلا بمشيئة الله .

                                                                                                                                                                                                              وتقديره عند آخرين : إلا أن تقول إن شاء الله . [ ص: 228 ] وقد مهدناه في رسالة الملجئة ، وهذا عزم من الله لعبده على أن يدخل قولا وعقدا في مشيئة ربه ، فما تشاءون إلا أن يشاء الله ; وقول ذلك أجدر في قضاء الأمر ، ودرك الحاجة . قال النبي صلى الله عليه وسلم : { قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : إن شاء الله ، فلم يقل ، فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قالها لجاهدوا في سبيل الله } .

                                                                                                                                                                                                              فهذا بيان الثنيا في اليمين ، وأنها حالة لعقد الأيمان ، وأصل في سقوط سبب الكفارة عنها ، وإنما الذي قاله مالك من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يذكر الله عند السهو والغفلة يصح أن يكون تفسيرا لقوله : { واذكر ربك إذا نسيت } . وفيها ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : قال ابن عباس : معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء في الأيمان ، متى ذكرت ، ولو إلى سنة ، وتابعه على ذلك أبو العالية ، والحسن .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال عكرمة : معناه واذكر ربك إذا غضبت .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء ، فيرفع عنه ذكر الاستثناء الحرج ، وتبقى الكفارة . وإن كان الاستثناء متصلا انتفى الحرج والكفارة .

                                                                                                                                                                                                              فأما من قال : إن معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم : { وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني } .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : معناه واذكر ربك إذا غضبت بالغين والضاد المعجمتين فمعناه التثبت عند الغضب فإنه موضع عجلة ، ومزلة قدم ، والمرء يؤاخذ بما ينطق به فمه ، كما تقدم بيانه . [ ص: 229 ] ومن رواه بالعين والصاد المهملتين فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته ، لاستحالة المعصية على الأنبياء شرعا بالخبر الوارد الصادق في تنزيههم عنها .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إن معناه واذكر ربك بالاستثناء في اليمين ليرتفع عنك الحرج دون الكفارة فهو تحكم بغير دليل .

                                                                                                                                                                                                              فتبين أن الصحيح في معنى الآية إرادة الاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى وهي رخصة من الله وردت في اليمين به خاصة لا تتعداه إلى غيره من الأيمان ، وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة :

                                                                                                                                                                                                              وخالف في ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا : إن الاستثناء نافع في كل يمين كالطلاق والعتق ; لأنها يمين تنعقد مطلقة ، فإذا قرن بها ذكر الله على طريق الاستثناء كان ذلك مانعا انعقادها ، كاليمين بالله .

                                                                                                                                                                                                              ومعول المالكية على أن مشيئة الله سبحانه إنما تعلم بوقوع الفعل ; لأنه لا يكون إلا ما يشاء ، فإذا قال : أنت طالق إن شاء الله ، أو أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله ، فقد كان الطلاق بوجود المشيئة ; لأن وجود الفعل علامة عليها ، وهذا أصل من أصول السنة ، وقد مهدناه في مسائل الخلاف .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية