الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل المشهد الثامن مشهد الأسماء والصفات

وهو من أجل المشاهد ، وهو أعلى مما قبله وأوسع .

والمطلع على هذا المشهد : معرفة تعلق الوجود خلقا وأمرا بالأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، وارتباطه بها ، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها .

وهذا من أجل المعارف وأشرفها ، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة ، فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال ، وكل صفة لها مقتضى وفعل إما لازم ، وإما متعد ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه ، وهذا في خلقه وأمره ، وثوابه وعقابه ، كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها .

ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها ، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال ، وتعطيل الأفعال عن المفعولات ، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله وأفعاله عن صفاته ، وصفاته عن أسمائه ، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته .

وإذا كانت أوصافه صفات كمال ، وأفعاله حكما ومصالح ، وأسماؤه حسنى ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه ، ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه ، وأن ذلك حكم [ ص: 419 ] سيئ ممن حكم به عليه ، وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره ، ولا عظمه حق تعظيمه ، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين ، كالأبرار والفجار ، والمؤمنين والكفار أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به ، تأباه أسماؤه وصفاته ، وقال سبحانه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم عن هذا الظن والحسبان ، الذي تأباه أسماؤه وصفاته .

ونظائر هذا في القرآن كثيرة ، ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها .

فاسمه الحميد ، المجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملا معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يثاب ولا يعاقب ، وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك ، وكذلك اسمه الملك واسمه الحي يمنع أن يكون معطلا من الفعل ، بل حقيقة الحياة الفعل ، فكل حي فعال ، وكونه سبحانه خالقا قيوما من موجبات حياته ومقتضياتها ، واسمه السميع البصير يوجب مسموعا ومرئيا ، واسمه الخالق يقتضي مخلوقا ، وكذلك الرازق ، واسمه الملك يقتضي مملكة وتصرفا وتدبيرا ، وإعطاء ومنعا ، وإحسانا وعدلا ، وثوابا وعقابا ، واسم البر والمحسن ، المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها .

إذا عرف هذا ، فمن أسمائه سبحانه الغفار ، التواب ، العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ، ولا بد من جناية تغفر ، وتوبة تقبل ، وجرائم يعفى عنها ، ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه ، إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق ، الرازق ، المعطي ، المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع ، وهذه الأسماء كلها حسنى .

[ ص: 420 ] والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه ، فهو عفو يحب العفو ، ويحب المغفرة ، ويحب التوبة ، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال

وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ، ويحلم عنه ، ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته ، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك ، وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده .

وهو سبحانه الحميد المجيد ، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما .

ومن آثارهما مغفرة الزلات ، وإقالة العثرات ، والعفو عن السيئات ، والمسامحة على الجنايات ، مع كمال القدرة على استيفاء الحق . والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها ، فحلمه بعد علمه ، وعفوه بعد قدرته ، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته ، كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك ، لست كمن يغفر عجزا ، ويسامح جهلا بقدر الحق ، بل أنت عليم بحقك ، قادر على استيفائه ، حكيم في الأخذ به .

فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم ، وفي الأمر ، تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد ، وتقديرها : هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال . وغاياتها أيضا : مقتضى حمده ومجده ، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته .

فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة ، والآيات الباهرة ، والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته ، واستدعاء محبتهم له ، وذكرهم له ، وشكرهم له ، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى ، إذ كل اسم فله تعبد مختص به ، علما ومعرفة وحالا ، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر ، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر ، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم ، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع ، أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم ، أو التعبد بأسماء التودد ، والبر ، واللطف ، والإحسان عن أسماء العدل ، والجبروت ، والعظمة ، والكبرياء ونحو ذلك .

وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله ، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن ، قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ، ودعاء [ ص: 421 ] الثناء ، ودعاء التعبد ، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ، ويثنوا عليه بها ، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها .

وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته .

فهو عليم يحب كل عليم ، جواد يحب كل جواد ، وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال ، عفو يحب العفو وأهله ، حيي يحب الحياء وأهله ، بر يحب الأبرار ، شكور يحب الشاكرين ، صبور يحب الصابرين ، حليم يحب أهل الحلم ، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة ، والعفو والصفح خلق من يغفر له ، ويتوب عليه ويعفو عنه ، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له ، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب .


فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب

والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع : محبوب يفضي إلى محبوب ، ومكروه يفضي إلى محبوب ، وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه .

والثالث : مكروه يفضي إلى مكروه ، والرابع : محبوب يفضي إلى مكروه ، وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه ، إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له . والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له .

فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له ، موصلة إلى الإحسان ، والثواب المحبوب له أيضا . والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له ، موصلة إلى العدل المحبوب له ، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل ، فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر ، لما فيهما من كمال الملك والحمد ، وتنوع الثناء ، وكمال القدرة .

فإن قيل : كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه .

قيل : هذا سؤال باطل ، لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والذي يقدر في الذهن وجوده شيء آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب ، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم ، بل قد يكون مبغوضا للرب تعالى لمنافاته حكمته ، فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له ، كان نسبة له إلى ما لا يليق به ، ويتعالى عنه .

فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل ، فإنه مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، ولو [ ص: 422 ] أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف .

وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كتاب ، أو يستوعبه خطاب ، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة تطلع على ما وراءها ، والله الموفق المعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية