الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في مسائل منثورة من اللعان

                                                                                                                                                                        إحداها : قال الزوج : قذفتك بعد النكاح ، فلي اللعان ، فقالت : قبله ، فلا لعان ، فهو المصدق بيمينه ، ولو اختلفا بعد حصول الفرقة ، فقال : قذفتك في زمن [ ص: 362 ] النكاح ، وقالت : بعده ، فهو المصدق أيضا ، ولو قال : قذفتك وأنت زوجتي ، فقالت : ما تزوجتك ( قط ) فهي المصدقة بيمينها .

                                                                                                                                                                        الثانية : قال لزوجته أو أجنبية : قذفتك وأنت أمة أو مشركة أو مجنونة فقالت : بل وأنا حرة مسلمة عاقلة . فإن علم لها حال رق أو كفر أو جنون ، صدق بيمينه ، وليس عليه إلا التعزير . وإن لم يعلم ذلك ، فأيهما يصدق ؟ قولان . أظهرهما : المرأة . ولو قال : وأنت صغيرة ، فهو المصدق بيمينه . ولو قال لمن قذفه من زوجته أو أجنبي : قذفتك وأنا مجنون ، فهل يصدق القاذف بيمينه ، أم المقذوف ، أم يفرق ؟ فإن عهد له جنون ، صدق القاذف ، وإلا ، فالمقذوف فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                        أظهرها : الفرق . ولو قال : قذفتك وأنا صبي ، فهو كالمجنون المعهود ، ولو قال : جرى القذف على لساني وأنا نائم ، لم يقبل لبعده . ولو أقام القاذف بينة أن القذف كان في الصغر أو الجنون ، وأقام المقذوف بينة أنه كان في حال الكمال ، فإن كانت البينتان مطلقتين ، أو مختلفي التاريخ ، أو إحداهما مطلقة ، والأخرى مؤرخة ، فهما قذفان ، وعليه الحد لما وقع في حالة الكمال . وإن اتحد تاريخهما ، تعارضتا . وفي التعارض أقوال معروفة .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : ولا يجيء هنا القسمة ولا الوقف ، وحكي عن القاضي حسين قول القرعة ، واستبعده وقال : الوجه القطع بالتهاتر ، فيكون كما لو لم تكن بينة ، وبهذا قطع البغوي . وحيث صدقنا القاذف بيمينه ، فلو نكل وحلف المقذوف ، وجب الحد على القاذف ، ويجوز اللعان في الزوجة .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إذا صدقته في القذف ، واعترفت بالزنا بعد لعان الزوج ، تأكد لعانه ، فإن كانت لاعنت ، فعليها حد الزنا لاعترافها ، إلا أن يرجع عن الإقرار ، وإن صدقته قبل لعانه ، أو في أثنائه ، سقط عنه الحد ، ووجب عليها حد الزنا ، [ ص: 363 ] والصحيح أنه لا يلاعن بعد ذلك ، ولا يتم اللعان إن صدقته في أثنائه إلا أن يكون ولد فينفيه .

                                                                                                                                                                        الرابعة : إذا مات أحد الزوجين قبل أن يتم لعان الزوج ، ورثه الآخر ، ثم إن كان الميت الزوج ، استقر نسب الولد ، وليس للوارث نفيه ، وإن ماتت هي ، جاز له إتمام اللعان إن كان هناك ولد ، فإن لم يكن ، نظر ، إن لم يكن لها وارث غير الزوج ، بأن كان ابن عمها أو معتقها ، ورث الحد وسقط ، وكذا لو لم يرثها إلا الزوج وأولاده منها ، لأن الولد لا يجوز أن يستوفي حد القذف من أبيه ، وإذا سقط الحد ولم يكن هناك ولد ، فقد سبق أنه لا يجوز اللعان لسائر الأغراض ، فلو كان يرثها غير الزوج وأولاده ، فما ورثه الزوج وأولاده يسقط ، ويجيء الخلاف فيما إذا سقط بعض الحد بعفو بعض الورثة ، إن قلنا : يسقط الجميع ، فكذلك يسقط الكل هنا ، ويمتنع اللعان . وإن قلنا : للباقين المطالبة بجميع الحد أو بقسطهم وطلبوا ، فله اللعان للدفع ، وفي جواز اللعان قبل المطالبة الخلاف السابق .

                                                                                                                                                                        الخامسة : عبد قذف زوجته ، ثم عتق وطالبته ، فله اللعان . فإن نكل حد حد العبيد ، لأنه وجب في الرق ، وكذا لو زنى في الرق ثم عتق ، حد حد العبيد . ولو قذف الذمي أو زنى ، ثم نقض العهد فسبي واسترق ، حد حد الأحرار ، ولو كانت الزوجة أمة فنكل عن اللعان ، فعليه التعزير . وإن لاعن حدت حد الإماء وإن عتقت بعد القذف .

                                                                                                                                                                        وإن قذف مسلم زوجته الذمية أو الصغيرة أو المجنونة ، ثم طلبت الذمية ، أو طلبتا بعد البلوغ والإفاقة ، فإن نكل ، فعليه التعزير ، وإن لاعن ونكلت الذمية ، فعليها حد الزنا ، وإن نكل الأخريان ، فلا شيء عليهما .

                                                                                                                                                                        السادسة : في " التتمة " أن الملاعن لو قبل من نفاه ، وقلنا : يلزمه القصاص فاستلحقه ، حكم بثبوت النسب وسقوط القصاص .

                                                                                                                                                                        [ ص: 364 ] وأن الذمي لو نفى ولدا ثم أسلم ، لم يتبعه المنفي في الإسلام . ولو مات وقسم ميراثه بين أقاربه الكفار ، ثم استلحقه الذمي الذي أسلم ، ثبت نسبه وإسلامه ، واسترد المال وصرف إليه ، وأن المنفي باللعان إذا كان قد ولد على فراش صحيح ، لو استلحقه غيره ، لم يصح ، كما لو استلحقه قبل أن ينفيه صاحب الفراش ، لأنه وإن نفاه ، فحق الاستلحاق باق له ، فلا يجوز تفويته ، ولو كان يلحقه نسبه بشبهة أو نكاح فاسد ، فنفاه فاستلحقه غيره ، لحقه ، لأنه لو نازعه فيه قبل النفي - سمعت دعواه .

                                                                                                                                                                        السابعة : فيما جمع من فتاوى القفال وغيره ، أن سقوط حد القذف عن القاذف وعدم حد الزنا على المقذوف لا يجتمعان إلا في مسألتين .

                                                                                                                                                                        إحداهما : إذا أقام القاذف بينة على زنا المقذوفة ، وأقامت بينة على أنها عذراء .

                                                                                                                                                                        الثانية : إذا أقام شاهدين على إقرار المقذوف بالزنا ، وقلنا الإقرار بالزنا لا يثبت بشاهدين ، فإنه يسقط حد القذف على الأصح . ومراده ما سوى صورة التلاعن ، فإن الزوجين إذا تلاعنا ، اندفع الحدان . وهنا صورة رابعة يسقط فيها الحدان ، وهي إذا أقام القاذف بينة بإقرار المقذوف بالزنا ، ثم رجع المقذوف عن الإقرار ، سقط عنه حد الزنا ، ولا يقبل رجوعه في حق القاذف ، فلا يلزمه حد القذف .

                                                                                                                                                                        قلت : مراد القفال : لا يسقط حد القذف مع أنه لا يحكم بوجوب حد الزنا ( ولا يقبل رجوعه ) إلا في المسألتين الأوليين ، فلا يرد عليه الأخريان ، لأنه وجب فيهما حد الزنا ، ثم سقط بلعانها أو بالرجوع . ولهذا قال : وعدم حد الزنا عن المقذوف ، ولم يقل : وسقوط حد الزنا ، كما قال : سقوط حد القذف . فالحاصل أنه لا يسقط حد القذف ويمتنع وجوب حد الزنا ، إلا في المسألتين الأوليين ، ولا يسقط حد القذف وحد الزنا إلا في أربع مسائل . والمراد : السقوط بحكم الشرع ، لا بعفو ونحوه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية