الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 424 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الجن

وهي مكية بإجماع من المفسرين.

قوله عز وجل:

قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا

قرأ جمهور الناس "قل أوحي" من "أوحى يوحي"، وقرأ أبو إياس جؤية بن عائذ: "قل وحي" من "وحى وأوحى " و"أوحى" بمعنى واحد، وقال العجاج :

وحى لها القرار فاستقرت

وقرأ أيضا جؤية فيما روى عنه الكسائي -: "قل أحي" أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة، وغير ذلك، وكذلك قرأ ابن أبي عبلة ، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من "أن" و"إنه" إلا قوله تعالى: وأن المساجد لله ، وحكي عن أبي عمرو أنه كان يكسر من أولها إلى قوله تعالى: وأن لو [ ص: 425 ] استقاموا فإنه كان يفتح هذه وما بعدها إلى آخر السورة، فعلى ما حكي يلزم أن تكون الألف مكسورة في قوله تعالى "إنه استمع" ، وليس ما ذكر بثابت. وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير ، وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك، أنه استمع ، وأن لو استقاموا ، وأن المساجد لله ، وأنه لما قام -وأن نافعا وعاصما -في رواية أبي بكر والمفضل - وافقا في الثلاثة وكسرا وأنه لما قام مع سائر ما في السورة، وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرءون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء، وكذلك حفص عن عاصم ، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من "أنه استمع"، و"أن لو استقاموا"، "وأن المساجد"، وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها.

واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافا كثيرا يطول حصره وتقصي معانيه، قال أبو حاتم : أما الفتح فعلى "أوحي" فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله، وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول.

وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ، وقد تقدم قصصهم في سورة [الأحقاف] في قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ، وكان سبب ذلك حراسة السماء من استراق السمع.

وقول الجن: "إنا سمعنا" الآيات هو خطاب منهم لقومهم الذين تولوا إليهم منذرين، و قرآنا عجبا معناه: ذو عجب; لأن العجب يقع من سامع القرآن لبراعته [ ص: 426 ] وفصاحته ومضمناته، وليس نفس القرآن هو العجب، وقرأ جمهور الناس: "إلى الرشد" بضم الراء وسكون الشين، وقرأ عيسى الثقفي : "إلى الرشد" بفتح الراء والشين، ومن كسر الهمزة من قوله تعالى "وإنه تعالى" فعلى القطع، وتعطف الجملة على قولهم: "إنا سمعنا"، ومن فتح الألف من قوله تعالى: "وأنه تعالى" فقد اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هي عطف على "أنه استمع"، فيجيء على هذا قوله تعالى: "وأنه تعالى" مما أمر أن يقول إنه أوحي إليه، وليس يكون من كلام الجن، وفي هذا قلق، وقال بعضهم: بل هي عطف على الضمير في "به"، فكأنهم يقولون فآمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وهذا القول أبين في المعنى لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض، وذلك لا يحسن.

وقرأ جمهور الناس: "جد ربنا" بفتح الجيم وإضافته إلى "الرب" تعالى، وقال جمهور المفسرين: معناه: عظمته، وروي عن أنس أنه قال: كان الرجل إذا قرأ [البقرة وآل عمران ] جد في أعيننا، أي: عظم، وقال أنس بن مالك ، والحسن : جد ربنا: غناه، فهذا هو من الجد الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وقال مجاهد : ذكره، وقال بعضهم: جلاله، وقال ابن عباس : قدره وأمره، وهذا كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان القاهر والطبقات العلية والعظمة، ومن هذا قال اليهودي حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: "يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون" أي: حظكم من الخيرات وبختكم، وقال علي بن الحسين ، وأبو جعفر الباقر، وابنه جعفر ، والربيع بن أنس : ليس لله تعالى جد، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن جعلوا الله جدا، أي أبا [ ص: 427 ] أب، قال كثير من المفسرين: هذا قول ضعيف، وقولهم: ولن نشرك بربنا أحدا يدفعه، وكونهم على شريعة متقدمة فيما روى- وفهمهم للقرآن، وقرأ محمد بن السميفع اليماني: "جدى ربنا" وهو الجدوى والنفع، وقرأ عكرمة : "جد ربنا" بفتح الجيم وضم الدال وتنوينها ورفع الرب، كأنهم يقولون: تعالى عظيم هو ربنا، و"ربنا" بدل، والجد: العظيم في اللغة، وقرأ حميد بن قيس: "جد ربنا" بضم الجيم، ومعناه: العظيم، حكاه سيبويه وأضافه إلى "الرب" فكأنه قال: "عظيم ربنا"، وهذه إضافة تجريد، يرفع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما تقول: "جاءني كريم زيد" تريد: زيد الكريم، ويجري مجرى هذا عند بعضهم قول المتنبي :


. . . . . . . . . . . عظيم الملك في المقل



أراد: الملك العظيم، قال بعض النحاة: وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير، وقرأ عكرمة أيضا: "جدا ربنا" بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع "الرب" نصب "جدا" على التمييز كما تقول "تفقأت شحما وتصببت عرقا"، وقرأ قتادة : "جدا ربنا" بكسر الجيم وشد الدال فنصب "جدا" على الحال، ومعناه: حقيقة ومتمكنا، وهذا معنى غير الأول، وقرأ أبو الدرداء : "تعالى ذكر ربنا"، وروي عنه " جلال ربنا".

قوله تعالى: وأنه كان يقول لا خلاف أن هذا قول الجن، وكسر الألف فيه [ ص: 428 ] أبين وفتحها لا وجه له إلا اتباع العطف على الضمير، كأنهم قالوا: وآمنا الآن بأن سفيهنا كان قوله على الله شططا، والسفيه المذكور قال جمهور من المفسرين: هو إبليس لعنه الله، وقال آخرون: هو اسم جنس لكل سفيه منهم، ولا محالة أن إبليس صدر في السفهاء، وهذا القول أحسن، و"الشطط": التعدي وتجاوز الحد بقول أو بفعل، ومنه قول الأعشى:


أتنتهون؟ ولا ينهى ذوي شطط     كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل



وقوله تعالى: "وأنا ظننا" هو كلام أولئك النفر من الجن، لا يحتمل غير ذلك، وكسر الألف فيه أبين، والمعنى: إنا كنا نظن قبل إيماننا أن الأقوال التي كنا نسمع من إبليس وغواة الجن والإنس في جهة الآلهة وما يتعلق بذلك حق وليست بكذب; لأنا كنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله تعالى ولا يرضون ذلك، وقرأ جمهور الناس: "تقول" بالتاء وضم القاف مخففة، وقرأ الحسن، والجحدري، وابن أبي بكرة ، ويعقوب: "تقول" بفتح التاء والقاف والواو مشددة، والتقول خاص بالكذب، والقول عام له وللصدق ولكن قولهم: "كذبا" يرد القول هنا إلى معنى التقول.

التالي السابق


الخدمات العلمية