الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وفاة محمد بن جرير الطبري

وفي هذه السنة توفي محمد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ ، ببغداذ ، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين ، ودفن ليلا بداره ، لأن العامة اجتمعت ، ومنعت من دفنه نهارا ، وادعوا عليه الرفض ، ثم ادعوا عليه الإلحاد ، وكان علي بن عيسى يقول : والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ، ولا فهموه ، هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب " تجارب الأمم " ، وحوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء .

وأما ما ذكره عن تعصب العامة ، فليس الأمر كذلك ، وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ، ووقعوا فيه ، فتبعهم غيرهم ، ولذلك سبب ، ( وهو أن الطبري جمع كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء ، لم يصنف مثله ، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل ، فقيل له في ذلك ، [ ص: 678 ] فقال : لم يكن فقيها ، وإنما كان محدثا ، فاشتد ذلك على الحنابلة ، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداذ ، فشغبوا عليه ، وقالوا ما أرادوا ) :


حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم     كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا وبغيا إنه لدميم



وقد ذكرت شيئا من كلام الأئمة في أبي جعفر يعلم [ منه ] محله في العلم ، والثقة ، وحسن الاعتقاد .

فمن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر الخطيب ، بعد أن ذكر من روى الطبري عنه ، ومن روى عن الطبري ، فقال : " وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في أحكام القرآن ، عالما بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، ناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقاويل الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم في الأحكام ، ومسائل الحلال والحرام ، خبيرا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، والكتاب الذي في التفسير لم يصنف مثله ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة ، وأخبار من أقاويل الفقهاء ، وتفرد بمسائل حفظت عنه " .

وقال أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد الرازي : أول ما سألني الإمام أبو بكر بن خزيمة قال لي : كتبت عن محمد بن جرير الطبري ؟ قلت : لا ! قال : لم ؟ قلت : لا يظهر ، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه .

[ ص: 679 ] فقال بئس ما فعلت ! ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنه ، وسمعت عن أبي جعفر .

وقال حسينك ، واسمه الحسين بن علي التميمي ، عن ابن خزيمة نحو ما تقدم . وقال ابن خزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبري : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر ، ولقد ظلمته الحنابلة .

وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني ، بعد أن ذكر تصانيفه : وكان أبو جعفر ممن لا يأخذه في الله لومة لائم ، ولا يعدل ، في علمه وتبيانه ، عن حق يلزمه لربه وللمسلمين ، إلى باطل لرغبة ولا رهبة ، مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل ، وحاسد ، وملحد .

وأما أهل الدين والورع فغير منكرين علمه ، وفضله ، وزهده ، وتركه الدنيا مع إقبالها عليه ، وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة ، ومناقبه كثيرة لا يحتمل هاهنا أكثر من هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية