الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [فيما يفيت هبة الثواب من حوالة أسواق أو بدن]

                                                                                                                                                                                        وأما ما يفيتها من حوالة أسواق أو بدن فاختلف فيه على أربعة أقوال: فقال ابن القاسم في المدونة: لا يفيتها حوالة الأسواق ، وقال في كتاب محمد: ذلك فوت، وسواء كان ذلك بزيادة أو نقص. ولم يختلف عنه أن تغير البدن بزيادة أو نقص فوت ، وقال مطرف في كتاب ابن حبيب: تغير البدن بزيادة أو نقص ليس بفوت .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: تغير السوق والبدن سواء، إن كان بنقص كان المقال للواهب، وهو بالخيار بين أن يلزمه القيمة أو يرضى بأخذها ناقصة، فلا يكون للموهوب له، مقال . يريد: إلا أن يثيبه برضاه، وإن تغيرت بزيادة كان المقال للموهوب، فإن أحب أن يثيبه وإلا ردها، وإن كره الواهب، وسواء كانت الزيادة من فعله أو غيره، وإن اجتمعت زيادة ونقص لم ترد الهبة إلا باجتماع منهما، فإن أراد الموهوب له أن يردها بالزيادة - كان للواهب أن يمتنع لأجل النقص ، وإن أراد الواهب ألا يقبل الثواب ويأخذها لمكان [ ص: 3412 ] النقص- كان للآخر المنع لأجل الزيادة، وقولهم في حوالة الأسواق حسن، فإن زاد جبر الواهب على قبولها إن أراد الموهوب له، وإن نقص لم يجبر; لأن عليه في ذلك ضررا، وأما تغير الجسم فاستحسن إن زاد من غير فعله أن له أن يرد; لأنه لا ضرر على الواهب، وإن كان من فعله مثل أن يقصر الثوب أو يبني الأرض أو يغرسها- أن يكون فوتا; لأن إحداثه رضى بالتزام الثواب، وأما الدور والأرضون فقال ابن القاسم في كتاب محمد: الفوت في الهبة كالفوت في البيع الفاسد لا يفيتها إلا الهدم والبناء وخروجها من اليد ، وعلى قول أشهب يفيتها ما يفيت العبد، والثوب ، وقال في كتاب محمد في الطعام: يرد مثل كيله أو وزنه ، وهذا يحسن إذا كان فوته بغير سببه، فأما إن أكله أو باعه فذلك رضى بالتزام الثواب، فيلزم به، ويمنع رد المثل، وصبغ الثوب عند ابن القاسم فوت، وقال أشهب: ليس بفوت .

                                                                                                                                                                                        فإن كان الصبغ يزيد - كان المقال للموهوب له أن يرد إن شاء، وإن كان ينقص كان المقال للواهب له أن يأخذه بنقصه إلا أن يثيبه برضاه، وأما قول أشهب في هذا فيما يغرم فمثل قول مالك في كتاب ابن حبيب- إنه لا يجبر مع القيام على قبول الهبة، وإن أرضاه، وأن له رضاه أو يرده.

                                                                                                                                                                                        وإن كانت أمة فولدت من غير الموهوب له- امتنع الرد على القولين [ ص: 3413 ] جميعا، وإن أحب الموهوب له الرد مع الولد كان للواهب الامتناع لنقص الولادة، وإن أحب الواهب الأخذ لأن الولادة نقص كان للموهوب له الامتناع لمكان زيادة الولد، وإلى هذا ذهب محمد، والقياس إذا كان في الولد ما يجبر النقص أن يكون له الرد وإن كره الواهب; لأنه لا ضرر عليه، وقياسا على البيع يظهر فيه على عيب بعد الولادة.

                                                                                                                                                                                        وإن وهب شاة فاحتلبها لم يكن رضى; لأنه غلة، وله الخراج بالضمان حتى يرد. وقال سحنون: إن كان عليها صوف فجزه لزمته ولم يردها; لأنه نقص. وأصل ابن القاسم أن له أن يردها، وهبته الصوف بمنزلة سلعتين فاتت الأدنى، فإن زوال الصوف عن الشاة ليس بعيب فيها، والغراس والبناء عند ابن القاسم فوت ، وقال أشهب في كتاب محمد: ليس بفوت . والأول أحسن; لأن إحداثه ذلك رضى بالتزام الثواب، وقال مالك: الحرث فوت . يريد: كان فيها زرع أم لا، وعلى قول أشهب ليس بفوت إن أسلمها بزرعها، وإن أقام عليه بعد حصاده أسلمها وحدها; لأن ذلك غلة، وكذلك النخل يردها بثمرها إن لم تطب، وإن طابت الثمار وجذها- رد الأصول دون الثمر.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا لم تجذ وقد طابت أو يبست هل يردها أو تبقى له؟ والعتق والتدبير وتقليد الهدي وإشعاره فوت يوجب القيمة إن كان الموهوب له [ ص: 3414 ] موسرا، وإن كان معسرا كان الواهب بالخيار بين أن يمضي ذلك ويتبعه بالقيمة ، أو يرد فعله ويأخذ هبته، وقد عورض هذا بأن قيل: يجب أن يكون للواهب أن يبيعها في القيمة; لأن التقليد رضى بالتزام الثواب، وقول ابن القاسم أصح; لأن الموهوب له يقول: إنما التزمت الثواب لفعل فعلته وهو التقليد والإشعار، فردك ذلك رد لرضاي، وإذا رددت الوجه الذي به التزمت الثواب- لم يلزمني ثواب، وإن كاتب العبد وهو معسر وكانت قيمته مكاتبا وقبل الكتابة سواء مضت الكتابة، وبيع في الثواب على أنه مكاتب، وإن كانت كتابته أقل ردت الكتابة على القول إن الكتابة من ناحية العتق، ولم ترد على القول الآخر إنها من ناحية البيع إذا لم يحابه في الكتابة.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد في الأمة تكاتب وإن كانت على غير وجه التجارة، واستدل أنه أراد العتق بالتخفيف من الكتابة بما لا يكاتب به مثله - رد الكتابة، وإن علم أنه أراد وجه التجارة وطلب الفضل- كان الواهب أحق به من الغرماء إن فلس، وهي على كتابتها، فإن ماتت ورثها، وإن عجزت كانت أمة، وإن أدت كانت حرة، وولاؤها لمن عقد كتابتها .

                                                                                                                                                                                        وهذا يصح على القول إن الفلس نقض بيع، فلم يجعل له منها سوى ما بقي من الكتابة، والماضي للموهوب له كالغلة، وهذا كما قال: إن اشترى ثوبا فلبسه ثم فلس إن البائع يأخذ الباقي بجميع الثمن، وإن كان قد أبلاه. وعلى القول إن الأخذ من المفلس كابتداء بيع، وإن جنى جناية عمدا كان فوتا- أسلمه [ ص: 3415 ] أو افتداه، وإن كان خطأ فأسلمه- غرم الثمن، وإن افتداه كان له رده.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية