الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قولهم: إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده، فليس بصادق من جميع الوجوه.

وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين: إما على جهة الدور، وإما على جهة الاستقامة. فالتي توجد على جهة الدور، الواجب فيها أن تكون غير متناهية، إلا أن يفرض فيها ما ينهيها.

مثال ذلك: أنه إن كان شروق فقد كان غروب، وإن كان غروب فقد كان شروق، فإن كان شروق فقد كان شروق.

وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض، وإن كان بخار [ ص: 89 ] صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض، وإن كان قد ابتلت الأرض فقد كان مطر، وإن كان مطر فقد كان غيم.

وأما التي تكون على استقامة، مثل كون الإنسان من الإنسان، وذلك الإنسان من إنسان آخر، فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية؛ لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الآخر، وإن كان ذلك بالعرض، مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان، الذي هو الإله وهو المصور له، ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع، فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلا لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة، أن يكون فعله لأشخاص الناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها، أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء، وإليه الإشارة في قوله تعالى أن اشكر لي ولوالديك [سورة لقمان: 14]).

قلت: مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع؛ لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول. وأما في الشروط والآثار -مثل كون [ ص: 90 ] الوالد شرطا في وجود الولد، ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر- فلا يمتنع. وهذا فيه نزاع معروف، وقد ذكر في غير هذا الموضع.

وليس في هذا ما ينفع الفلاسفة في قولهم بقدم الأفلاك، وإنما غايته إبطال ما يقوله من يقول بوجوب تناهي الحوادث. وقد تقدم غير مرة أن حجة الفلاسفة باطلة على تقدير النقيضين، فإنه إذا امتنع وجود ما لا يتناهى بطل قولهم، وإن جاز وجوده لم يمتنع أن يكون وجود الأفلاك متوقفا على حوادث قبله، وكل حادث مشروط بما قبله، كما يقولون هم في الحوادث المشهودة من الأناسي والأمطار كما ذكره، بل هذا يستلزم امتناع حدوث الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، ويقتضي أنه يلزم من قولهم أن لا يكون للحوادث فاعل، إذا كان كل حادث مشروطا بحادث قبله. والعلة التامة المستلزمة لمعلولها يمتنع عندهم -وعند غيرهم- أن يحدث عنها شيء بوسط أو غير وسط؛ لأن ذلك يقتضي تأخر شيء من معلولاتها فلا تكون تامة، بل فيها إمكان ما بالقوة لم يخرج إلى الفعل، وهو نقيض قولهم.

قال ابن رشد: وأيضا فإن قولهم: إن الحركة المشار إليها لا تخرج إلا وقد انقضت قبلها حركات لا نهاية لها، قول لا يسلمه الخصوم، فإن الخصوم يقولون: إنه لا ينقضي إلا ما له ابتداء، وما لا مبدأ له -كما [ ص: 91 ] نضعه نحن- فلا انقضاء له، وبهذا ينكرون قولهم: إن ما وقع في الماضي فقد دخل في الوجود؛ لأن معنى: دخل في الوجود، أنه تناهى وجوده وكمل، ولا يتناهى إلا ما له ابتداء، فأما ما لم يبتدى فلا يدخل في الوجود).

التالي السابق


الخدمات العلمية