الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1631 [ ص: 198 ] حديث حاد وعشرون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار أنه أخبره : أن عبد الله بن سهل الأنصاري ، ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما ، فقتل عبد الله بن سهل ، فقدم محيصة ، فأتى هو وأخوه حويصة ، وعبد الرحمن بن سهل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كبر كبر ، فتكلم محيصة وحويصة ، فذكرا شأن عبد الله بن سهل ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتحلفون خمسين يمينا ، وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم . قالوا : يا رسول الله لم نشهد ، ولم نحضر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، فقالوا : يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ قال يحيى : فزعم بشير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداه من عنده .

التالي السابق


لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث ، وقد رواه حماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، والليث بن سعد ، وعبد الوهاب الثقفي ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، وبعضهم يجعل مع سهل بن أبي حثمة رافع بن خديج جميعا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلهم يجعله عن سهل بن أبي حثمة مسندا .

[ ص: 199 ] أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو بن ميسرة ، ومحمد بن عبيد المعنى قالا : حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج : أن محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر ، فتفرقا في النخل ، فقتل عبد الله بن سهل ، فاتهموا اليهود ، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل ، وأنبأ عميه حويصة ومحيصة ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه ، وهو أصغرهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكبر الكبر ، قال : ليبدأ الأكبر ، فتكلموا في أمر صاحبهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقسم منكم خمسون على رجل فيدفع برمته ، قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم . قالوا : يا رسول الله قوم كفار ، قال : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبله قال : قال سهل : دخلت مربد التمر ، فركضتني ناقة من تلك الأبل ركضة برجلها هذا أو نحوه .

قال أبو داود : رواه مالك ، وبشر بن المفضل ، عن يحيى ، فقالا فيه : أتحلفون خمسين يمينا ، وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم ؟ ولم يذكر بشير " دم " ، وقال عبدة : عن يحيى كما قال حماد .

[ ص: 200 ] قال أبو عمر : في حديث حماد بن زيد هذا دليل واضح على أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد ; لأنه أمرهم بتعيين رجل يقسمون عليه فيدفع إليهم برمته ، وهو حجة لمالك وأصحابه في ذلك ، وكذلك في حديث الزهري عن سهل بن أبي حثمة : تسمون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ، فيسلم إليكم .

ومن جهة النظر ، فلأن الواحد أقل من يستيقن أنه قتله ، فوجب أن يقتصر بالقسامة عليه .

قال أبو داود : ورواه ابن عيينة ، عن يحيى ، فبدأ بقوله : تبرئكم يهود بخمسين يمينا تحلفون ، ولم يذكر الاستحقاق - هكذا قال أبو داود ، وليس عندنا حديث ابن عيينة كذلك ، وهو عندنا من رواية الحميدي ، وهو أثبت الناس في ابن عيينة ما ذكره .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : أخبرني بشير بن يسار أنه سمع سهل بن أبي حثمة يقول : وجد عبد الله بن سهل قتيلا في فقير أو قليب من قلب خيبر ، فأتى أخوه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، فذهب عبد الرحمن يتكلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الكبر الكبر ، فتكلم محيصة ، فذكر مقتل عبد الله بن سهل ، فقال : يا رسول الله ، إنا وجدنا عبد الله بن [ ص: 201 ] سهل قتيلا ، وإن اليهود أهل كفر وغدر ، وهم الذين قتلوه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تحلفون خمسين يمينا ، وتستحقون صاحبكم أو دم صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله كيف نحلف على ما لم نحضر ، ولم نشهد قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، قالوا : كيف نقبل أيمان قوم مشركين قال : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده قال سهل : فلقد ركضتني بكرة منها .

ورواه الشافعي ، وغيره جماعة عن ابن عيينة كما قال أبو داود ، وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، وأحمد بن محمد قالا : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا عبيد الله بن يحيى قال : أخبرني أبي ، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة . قال يحيى : حسبت أنه قال : وعن رافع بن خديج أنهما قالا : خرج عبد الله بن سهل بن زيد ، ومحيصة بن مسعود بن زيد حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك ، ثم إذا محيصة يجد عبد الله قتيلا ، فدفنه ثم أقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وحويصة بن مسعود ، وعبد الرحمن بن سهل ، وكان أصغر القوم ، فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : - كبر - للكبر في السن ، فصمت ، وتكلم صاحباه ، ثم تكلم معهما ، فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقتل عبد الله بن سهل ، فقال : أتحلفون خمسين يمينا ، فتستحقون صاحبكم أو قتيلكم ، فقالوا : وكيف نحلف ، ولم نشهد : قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، [ ص: 202 ] قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى عقله .

وقد رواه بشر بن المفضل ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال : وجد عبد الله بن سهل قتيلا ، فجاء أخوه وعماه ، وذكر الحديث .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق قال : فحدثني الزهري ، عن سهل بن أبي حثمة قال ابن إسحاق : وحدثني - أيضا - بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال : أصيب عبد الله بن سهل بخيبر ، وكان خرج إليها في أصحاب له يمتار منها تمرا ، فوجد في عين قد كسرت عنقه ، ثم طرح فيها ، فأخذوه فغيبوه ، ثم قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له شأنه ، فتقدم إليه أخوه عبد الرحمن ، ومعه ابنا عمه حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنا ، وكان صاحب الدم ، وكان ذا قدم في القوم ، فلما تكلم قبل ابني عمه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكبر الكبر - فسكت ، فتكلم حويصة ومحيصة ، ثم تكلم هو بعد ، فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل صاحبهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تسمون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين [ ص: 203 ] يمينا ، فيسلم إليكم ، فقالوا : يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم ، قال : فيحلفون لكم بالله خمسين يمينا ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، ثم يبرؤون من دمه ، قالوا : يا رسول الله ما كنا لنقبل أيمان يهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم ، قال : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده مائة ناقة ، قال سهل : فوالله ما أنسى بكرة منها حمراء ضربتني ، وأنا أحوزها .

ففي هذه الروايات لمالك وغيره إثبات تبدئة المدعين بالأيمان في القسامة ، وفي حديث مالك هذا من الفقه إثبات القسامة في الدم ، وهو أمر كان في الجاهلية ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام .

ذكر معمر ، ويونس ، عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال أو رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية . ذكره عبد الرزاق ، عن معمر .

وذكره ابن وهب ، عن يونس قال يونس : عن رجل ، وقال معمر : عن رجال ، وقال معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب : كانت القسامة في الجاهلية ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقضى بها في الأنصاري الذي وجد مقتولا في جب اليهود بخيبر .

وفيه : أن القوم إذا اشتركوا في معنى من معاني الدعوى وغيرها ، كان أولاهم بأن يبدأ بالكلام أكبرهم ; فإذا سمع منه تكلم الأصغر ، [ ص: 204 ] فيسمع منه - أيضا - إن احتيج إلى ذلك ، وهذا أدب وعلم ، فإن كان في الشركاء في القول والدعوى من له بيان ، ولتقدمته في القول وجه ، لم يكن بتقديمه بأس إن شاء الله .

أخبرنا محمد بن زكرياء قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا مروان بن محمد قال : حدثنا أبو حاتم ، عن العتبي قال : قال سفيان بن عيينة : قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز ، فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام ، ويهش إليه ، فقال عمر : كبروا ، كبروا يقول : قدموا الكبار . قال الفتى : يا أمير المومنين إن الأمر ليس بالسن ، ولو كان الأمر كذلك ، لكان في المسلمين من هو أسن منك ، قال : صدقت ، فتكلم - رحمك الله - قال إنا وفد شكر ، وذكر الخبر .

وفيه أن المدعين الدم يبدؤون بالأيمان في القسامة خاصة ، وهو يخص قول النبي - صلى الله عليه وسلم - البينة على المدعي ، واليمين على المنكر . فكأنه قال بدليل هذا الحديث إلا في القسامة ، ولا فرق بين أن يجيء ذلك في حديث واحد أو حديثين ; لأن ذلك كله بسنته - صلى الله عليه وسلم - .

وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البينة على المدعي ، واليمين على من [ ص: 205 ] أنكر إلا في القسامة .

وهذا الحديث ، وإن كان في إسناده لين ، فإن الآثار المتواترة في حديث هذا الباب تعضده ، ولكنه موضع اختلف فيه العلماء ، فقال مالك - رحمه الله - : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأمة في القديم والحديث أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة قال : وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبدئين في القسامة أهل الدم الذين يدعونه في العمد والخطأ ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ الحارثيين في صاحبهم الذي قتل بخيبر .

وذهب الشافعي في تبدئة المدعين الدم بالأيمان - إلى ما ذهب إليه مالك في ذلك على ظواهر هذه الأحاديث المتقدم ذكرها في هذا الباب .

ومن حجة مالك والشافعي في تبدئة المدعين الدم باليمين مع صحة الأثر بذلك : قول الله - عز وجل - ( ولكم في القصاص حياة ) ، وقوله - عز وجل - ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) ، فالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود بدأ الحارثيين بالأيمان ، وجعل العداوة سببا تقوى به دعواهم ; لأنه لطخ يليق بهم في الأغلب لعداوتهم ، ومن سنته - صلى الله عليه وسلم - أن من قوي سببه في دعواه وجبت تبدئته باليمين ، ولهذا جاء اليمين مع الشاهد ، - والله [ ص: 206 ] أعلم - مع ما في هذا من قطع التطرق إلى سفك الدماء ، وقبض أيدي الأعداء عن إراقة دم من عادوه على الدنيا - والله أعلم - .

وذهب جمهور أهل العراق إلى تبدئة المدعى عليهم بالأيمان في الدماء كسائر الحقوق ، وممن قال ذلك : أبو حنيفة ، وأصحابه ، وعثمان البتي ، والحسن بن صالح ، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة كل هؤلاء قالوا : يبدأ المدعى عليهم على عموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر .

حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه .

قال : وهذا على عمومه في سائر الحقوق من الدماء أو غيرها ; لأنه قد روي أن مخرج هذا الخبر كان في دعوى دم ، وذكروا ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ، والحارث بن أبي أسامة قالا : حدثنا يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال : كتبت إلى ابن عباس في امرأتين أخرجت إحداهما يدها تشخب دما ، فقالت : أصابتني هذه ، وأنكرت الأخرى ، فكتب إلي ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن اليمين على المدعى عليه ، وقال : لو [ ص: 207 ] أن الناس أعطوا بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ادعها فاقرأ عليها ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) ، فقرأت عليها ، فاعترفت .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن الجهم ، حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

قالوا : فهذا عندنا في جميع الحقوق ، وعارضوا الآثار المتقدمة بما حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود وبدأ بهم : أيحلف منكم خمسون رجلا فأبوا ، فقال للأنصار : استحقوا ، فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ؟ فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهود ; لأنه وجد بين أظهرهم .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ [ ص: 208 ] قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال : حدثني أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدثنا إبراهيم بن سعد جميعا ، عن محمد بن إسحاق ، واللفظ لحديث عبد الوارث ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن بجيد بن قيظي ، أحد بني حارثة ، قال محمد بن إبراهيم : وايم الله ما كان سهل بأكثر علما منه ، ولكنه كان أسن منه ، إنه قال : والله ما كان الشأن هكذا ، ولكن سهل أوهم ، ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احلفوا على ما لا علم لكم به ، ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيلا بين أبياتكم ، فدوه ، فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

قال أبو عمر : ليس قول عبد الرحمن بن بجيد هذا مما يرد به قول سهل بن أبي حثمة ; لأن سهلا أخبر عما رأى وعاين وشاهد حتى ركضته منها ناقة واحدة ، وعبد الرحمن بن بجيد لم يلق النبي ، ولا رآه ، ولا شهد هذه القصة . وحديثه مرسل ، وليس إنكار من أنكر شيئا بحجة على من أثبته ، ولكن قد تقدم عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار مخالفة في تبدئة الأيمان في هذه القصة - وهو حديث ثابت ، وكذلك اختلف في حديث سهل بن أبي حثمة [ ص: 209 ] - أيضا - ولكن الرواية الصحيحة في ذلك - إن شاء الله - رواية مالك ومن تابعه ، عن يحيى بن سعيد وغيره على ما ذكرناه في هذا الباب .

ومن الاختلاف في حديث سهل : ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سعيد - يعني ابن عبيد الطائي ، عن بشير بن يسار - أن رجلا من الأنصار ، يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره : أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر ، فتفرقوا فيها ، فوجدوا منهم قتيلا ، فقالوا للذين وجدوه عندهم : قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا قال : فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا نبي الله انطلقنا إلى خيبر ، فوجدنا أحدنا قتيلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكبر ، الكبر ، فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتل ، فقالوا : ما لنا بينة ; قال : فيحلفون لكم ، قالوا : ما نرضى أيمان يهود . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة .

قال أبو عمر : هذه رواية أهل العراق عن بشير بن يسار في هذا الحديث ، ورواية أهل المدينة عنه أثبت - إن شاء الله - وهم به أقعد ، ونقلهم أصح عند أهل العلم ، وقد حكى الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه ضعف حديث سعيد بن عبيد هذا ، عن بشير بن يسار ، وقال : الصحيح عن بشير بن يسار ما رواه عنه يحيى بن سعيد قال أحمد : وإليه أذهب .

[ ص: 210 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحسن بن علي بن راشد ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي حيان التيمي قال : حدثنا عباية بن رفاعة ، عن رافع بن خديج قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر ، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له ، فقال لهم : شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله لم يكن عند أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود ، وقد يجترئون على أعظم من هذا ، قال : فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم ، فأبوا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

قال أبو عمر : في هذه الأحاديث كلها تبدئة المدعى عليهم بالأيمان في القسامة ، وفي الآثار المتقدمة عن سهل بن أبي حثمة تبدئة المدعين بالأيمان ، وقد روى ابن شهاب هذه وهذه ، وقضى بما في حديث سهل ، فدل على أن ذلك عنده الأثبت والأولى على ما قال أحمد بن حنبل ، وعلى ما ذهب إليه الحجازيون ، - والله أعلم - فإن قيل : قد روي عن ابن شهاب ، عن عراك بن مالك ، وسليمان بن يسار - أن عمر بن الخطاب بدأ المدعى عليهم بالأيمان في القسامة ، قيل له : المصير إلى المسند الثابت أولى من قول الصاحب من جهة الحجة ، وفي هذا الحديث حديث يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار نكول الفريقين عن الأيمان ، وفي ذلك ما [ ص: 211 ] يدل على أن الدية إنما جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده تبرعا لئلا يبطل ذلك الدم ، وذلك ليس بواجب ، - والله أعلم - .



وقد روى ابن عبد الحكم ، عن مالك في قتيل ادعى بعض ولاته أنه قتل عمدا ، وقال بعضهم : لا علم لنا بمن قتله ولا نحلف ، فإن دمه يبطل ، وللفقهاء في القسامة وفيما يوجبها من الأسباب ، وفيما يجب بها من القود أو الدية مذاهب نذكرها هنا ( نحن ) ليتبين للناظر في كتابنا معنى القسامة بيانا واضحا - إن شاء الله .

قال مالك - رحمه الله - : القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين : إما أن يقول المقتول : دمي عند فلان ، أو يأتي ولاة المقتول بلوث من بينة ، وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم ، فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه ، فيحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول الذين يجوز عفوهم ، فلا يقتل حينئذ أحد ، ولا سبيل إلى الدم إذا نكل واحد منهم ، ولا ترد الأيمان على من بقي إذا نكل أحد ممن يجوز له العفو عن الدم ، وإن كان واحدا ; قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو ، فإن نكل واحد ممن يجوز له العفو ، فإنه إذا كان ذلك ردت الأيمان حينئذ على المدعى عليهم الدم ، فيحلف منهم خمسون رجلا [ ص: 212 ] خمسين يمينا ، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الخمسون يمينا على من حلف منهم حتى تكمل الخمسون يمينا ، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه الدم حلف وحده خمسين يمينا ، قال مالك : لا يقسم في قتل العمد إلا اثنان من المدعين فصاعدا ، يحلفان خمسين يمينا تردد عليهما ، ثم قد استحقا الدم ، وقتلا من حلفا عليه ، ( وكذلك إن كان ولي الدم الذي ادعاه واحدا بدئ به ، فحلف وحده خمسين يمينا ، فإذا حلف المدعون خمسين يمينا استحقوا صاحبهم ، وقتلوا من حلفوا عليه ) ولا يقتل في القسامة إلا واحد ، ولا يقتل فيها اثنان ; - هذا كله قول مالك في موطئه ، وموطأ ابن وهب .

قال أبو عمر : إنما جعل مالك قول المقتول : دمي عند فلان شبهة ولطخا ، وجب به تبدئة أوليائه بالأيمان في القسامة ; لأن المعروف من طباع الناس عند حضور الموت الإنابة ، والتوبة ، والتندم على ما سلف من سيئ العمل ، ألا ترى إلى قول الله - عز وجل - ( لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) ، وقوله : ( حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) . فهذا معهود من طباع الإنسان ، وغير معلوم من عادته أن يعدل عن قاتله إلى غيره ، ويدع [ ص: 213 ] قاتله ، وما خرج عن هذا ، فنادر في الناس لا حكم له ، فلهذا وشبهه مما وصفنا ذهب مالك إلى ما ذكرنا - والله أعلم - .

وقد نزع بعض أصحابنا في ذلك بقصة قتيل البقرة ; لأنه قبل قوله في قاتله ; وفي هذا ضروب من الاعترافات ، وفيما ذكرنا كفاية - إن شاء الله .

وذكر ابن القاسم عن مالك قال : إذا شهد رجل عدل على القاتل ، أقسم رجلان خمسين يمينا ، وقال ابن القاسم : والشاهد في القسامة إنما هو لوث وليست شهادة ، وعند مالك : أن ولاة الدم إذا كانوا جماعة لم يقسم إلا اثنان ، واعتل بعض أصحابه لقوله هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عرضها على جماعة ، والقسامة في قتل الخطأ كهي في العمد لا تستحق بأقل من خمسين يمينا ، من أجل أن الدية إنما تجب عن دم ، والدم لا يستحق بأقل من خمسين يمينا ، فالقسامة على الخطأ ، وإن لم يكن يجب بها قتل ولا قود ، كالقسامة في قتل العمد ، واليمين في القسامة على من سمى أنه ضربه ، وأن من ضربته مات ، فإن أقسم ولاة المقتول على واحد ; لأنه لا يقتل بالقسامة أكثر من واحد قتل المحلوف عليه ، فإن كان معه ممن ادعي عليه الدم جماعة غيره ضربوا مائة مائة ، وسجنوا سنة ، ثم خلي عنهم ، والدية في [ ص: 214 ] قتل الخطأ على عاقلة الذي يقسمون عليه أنه مات من فعله به خطأ ، قال مالك : وإنما يحلفون في قسامة الخطأ على قدر ميراث كل واحد منهم في الدية ، فإن وقع في الأيمان كسور أتممت اليمين على أكثرهم ميراثا ، ومعنى ذلك أن يحلف هذا يمينا ، وهذا يمينا ، ثم يرجع إلى الأول فيحلف ، ثم الذي يليه حتى تتم الأيمان كلها .

وقال مالك : إذا ادعى الدم بنون أو إخوة ، فعفا أحدهم عن المدعى عليه لم يكن إلى الدم سبيل ، وكان لمن بقي منهم أنصباؤهم من الدية بعد أيمانهم ، قال ابن القاسم : لا يكون لهم من الدية شيء إلا أن يكونوا قد أقسموا ، ثم عفا بعضهم ، فأما إذا نكل أحدهم عن القسامة لم يكن لمن بقي شيء من الدية .

ولأصحاب مالك في عفو العصبات مع البنات ، وفي نوازل القسامة مسائل لا وجه لذكرها هاهنا .

وقال مالك في الموطأ : إنما فرق بين القسامة في الدم ، وبين الأيمان في الحقوق ، وأن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه ، وأن الرجل إذا أراد أن يقتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس ، وإنما يلتمس الخلوة ، قال : فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت بالبينة ، وعمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء وبطلت ، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون فيها ، ليكف الناس عن الدم ، وليحذر القاتل أن يؤخذ في ذلك بقول المقتول .

[ ص: 215 ] وقال الشافعي : إذا وجد القتيل في دار قوم محيطة أو قبيلة - وكانوا أعداء للمقتول ، وادعى أولياؤه قتله ، فلهم القسامة ، وكذلك الزحام إذا لم يفترقوا حتى وجدوا بينهم قتيلا ، أو في ناحية ليس إلى جانبه إلا رجل واحد ، أو يأتي شهود متفرقون من المسلمين من نواح لم يجتمعوا فيها ، يثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله ، فتتواطأ شهادتهم ، ولم يسمع بعضهم بشهادة بعض ، وإن لم يكونوا ممن يعدل ، أو شهد رجل عدل أنه قتله ; لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى وليه ، فللولي حينئذ أن يقسم على الواحد وعلى الجماعة ، سواء كان جرحا أو غيره ; لأنه قد يقتل بما لا أثر له ، قال : ولا ينظر إلى دعوى الميت .

وقال الأوزاعي : يستحلف من أهل القرية خمسون رجلا خمسين يمينا ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، فإن حلفوا بروا ، وإن نقصت قسامتهم وليها المدعون ، فأحلفوا بمثل ذلك عن رجل واحد ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نقصت قسامتهم أو نكل رجل منهم لم يعطوا الدم ، وعقل قتيلهم إذا كان بحضرة الذين ادعي عليهم في ديارهم .

وقال الليث بن سعد : الذي يوجب القسامة أن يقول المقتول قبل موته : فلان قتلني ، أو يأتي من الصبيان أو النساء أو النصارى ومن أشبههم ممن لا يقطع بشهادته - أنهم رأوا هذا حين قتل هذا ، فإن القسامة تكون مع ذلك [ ص: 216 ] وقال أبو حنيفة : إذا وجد قتيل في محلة ، وبه أثر ، وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه ، أو على واحد منهم بعينه ; استحلف من أهل المحلة خمسون رجلا بالله ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، يختارهم الولي ، فإن لم يبلغوا خمسين كرر عليهم الأيمان ، ثم يغرمون الدية ، وإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يقروا أو يحلفوا ، وهو قول زفر .

وروى الحسن بن زياد ، عن أبي يوسف : إذا أبوا أن يقسموا تركهم ولم يحبسهم ، وجعل الدية على العاقلة في ثلاث سنين .

وقالوا جميعا يعني أبا حنيفة ، وأصحابه : إن ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة ، فقد أبرأ أهل المحلة ، ولا شيء له عليهم .

وقال الثوري في هذا كله مثل قول أبي حنيفة ، إلا أن ابن المبارك روى عن الثوري : أنه إن ادعى الولي على رجل بعينه من أهل المحلة ، فقد برئ أهل المحلة ، وصار دمه هدرا ، إلا أن يقيم البينة على ذلك الرجل .

وقال الحسن بن حي : يحلف من كان حاضرا من أهل المحلة من ساكن أو مالك خمسين يمينا ما قتلته ، ولا علمت قاتلا ، فإذا حلفوا كان عليهم الدية ، ولا يستحلف من كان غائبا ، وإن كان مالكا ، وسواء كان به أثر أو لم يكن .

وقال عثمان البتي : يستحلف منهم خمسون رجلا ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، ثم لا شيء ذلك إلا أن تقوم البينة على رجل بعينه أنه قتله .

[ ص: 217 ] وكان مسلم بن خالد الزنجي ، وأهل مكة لا يرون القسامة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، وسالم بن عبد الله ، وقتادة ، والحسن ، وإليه ذهب ابن علية .

وقال الحسن البصري : القتل بالقسامة جاهلية .

قال أبو عمر : من حجة مالك ، والشافعي في أحد قوليه : أنه يوجب القود في القسامة ، ومن قال بقولهما مع الآثار المتقدم ذكرها في هذا الباب - ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمود بن خالد ، وكثير بن عبيد قالا : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك .

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قضى فيها بالقود ، وقضى بها عبد الله بن الزبير ، وحسبك بقول مالك - أنه الذي لم يزل عليه علماء أهل المدينة قديما ، وحديثا ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة لقوله في هذا الباب بحديث مالك ، عن ابن أبي ليلى ، عن سهل بن أبي حثمة في هذه القصة قوله : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب . قالوا ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ذلك لهم إلا وقد تحقق عندهم قبل [ ص: 218 ] ذلك وجود القتيل بخيبر ، فدل ذلك على وجوب الدية على اليهود لوجود القتيل بينهم ; لأنه لا يجوز أن يؤذنوا بحرب إلا بمنعهم حقا واجبا عليهم .

واحتجوا - أيضا - بما روي عن عمر بن الخطاب في رجل وجد قتيلا بين قريتين ، فجعله على أقربهما ، وأحلفهم خمسين يمينا ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، ثم أغرمهم الدية .

فقال الحارث بن الأزمع : نحلف ونغرم ؟ قال : نعم ، قالوا : وحديث سهل مضطرب ، قالوا : والمصير إلى حديث ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار في هذه القصة أولى ; لأن نقلته أئمة فقهاء حفاظ لا يعدل بهم غيرهم ، وفيه : فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على اليهود ; لأنه وجد بين أظهرهم .

وأما مالك ، والشافعي ، والليث بن سعد فقالوا : إذا وجد قتيل في محلة قوم أو قبيلة قوم ، لم يستحق عليهم بوجوده شيء ، ولم تجب به قسامة حتى تكون الأسباب التي شرطوها كل على أصله الذي قدمنا عنه .

قال ابن القاسم ، عن مالك : سواء وجد القتيل في محلة قوم ، أو دار قوم ، أو أرض قوم ، أو في سوق أو مسجد جماعة ، فلا شيء فيه ، ولا قسامة ، وقد طل دمه .

[ ص: 219 ] قال أبو عمر : المحلة قرية البوادي ، والمجاشر ، والقياطن ، وكذلك القبائل ، والمياه ، والأحياء ، وقال الشافعي : إذا وجد في محلة أو قبيلة قتيل ، وهم أعداؤه لا يحيط بهم غيرهم ، فذلك لوث يقسم معه ، وإن خالطهم غيرهم ، فقد طل دمه إلا أن يدعي الأولياء على أهل المحلة ، فيحلفون ، ويبرؤون ، وفرق الشافعي بين أن يكون أهل القبيلة والمحلة أعداء المقتول ، فيجعل عقله عليهم مع القسامة أو لا يكونوا ، فلا يلزمهم شيء ، وكذلك لو وجد قتيل في ناحية ليس بقرية - إلا رجل واحد وجد بقرية رجل في يده سكين ملطوخة بالدم ، فإنه يجعل ذلك لوثا يقسم معه ، وسواء كان به أثر أم لم يكن .

واعتبر أبو حنيفة - إن كان بالقتيل أثر ، فيجعله على القبيلة ، أو لا يكون أثر له فلا يجعله على أحد ، وقول الثوري ، وابن شبرمة ، وعثمان البتي ، وابن أبي ليلى في القسامة كقول أبي حنيفة إلا أنه سواء عندهم كان به أثر أم لم يكن به أثر .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وسائر أهل العلم غير مالك : لا يعتبر بقول المقتول : دمي عند فلان ، ولا يستحق بهذا القول قسامة .

واحتج جماعة من المالكيين لمذهب مالك في ذلك بقصة المقتول من بني إسرائيل - إذ ذبحت البقرة وضرب ببعضها ، فأحياه الله ، وقال : [ ص: 220 ] فلان قتلني ، فأخذ بقوله ، ورد المخالف هذا بأن تلك آية لبني إسرائيل لا سبيل إليها اليوم ، وبأن شريعتنا فيها أن الدماء والأموال لا تستحق بالدعاوى دون البينات ، ولم نتعبد بشريعة من قبلنا لقوله - عز وجل - ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) .

وقتيل بني إسرائيل لم يقسم أحد عليه مع قوله : هذا قتلني ، وهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين أن المدعى عليه يقتل بقول المدعي دون بينة ولا قسامة ، فلا معنى لذكر قتيل بني إسرائيل هاهنا ، وقد أجمع العلماء على أن قول الذي تحضره الوفاة لا يصدق على غيره في شيء من الأموال ، فالدماء أحق بذلك ، وقد علمنا أن من الناس من يحب الاستراحة من الأعداء للبنين والأعقاب ، ونحو هذا مما يطول ذكره .

وقال مالك : إذا كان القتل عمدا حلف أولياء المقتول خمسين يمينا على رجل واحد وقتلوه ; قال ابن القاسم : لا يقسم في العمد إلا اثنان كما أنه لا يقتل بأقل من شاهدين ، وكذلك لا يحلف النساء في العمد ; لأن شهادتهن لا تجوز فيه ، ويحلفن في الخطأ من أجل أنه مال ، وشهادتهن جائزة في الأموال .

وعند الشافعي : يقسم الولي واحدا كان أو أكثر على واحد مدعى عليه ، وعلى جماعة مدعى عليهم ، ومن حجة الشافعي أنه ليس في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم منكم خمسون على رجل منهم ، فيدفع إليهم برمته ما يدل على أنه لا يجوز قتل أكثر من واحد ، وإنما فيه التنبيه [ ص: 221 ] على تعيين المدعى عليه الدم واحدا كان أو جماعة .

ومن حجته - أيضا - في ذلك أن القسامة بدل من الشهادة ، فلما كانت الشهادة تقتل بها الجماعة ، فكذلك القسامة ، - والله أعلم - ، والاحتجاج على هذه الأقوال ‌‌ولها يطول ، والله المستعان .

وقال أبو حنيفة : لا يستحق بالقسامة قود خلاف قول مالك ، وعلى كلا القولين جماعة من السلف ، وعن الشافعي روايتان ، إحداهما : أن القسامة يستحق بها القود ، ويقتل بها الواحد والجماعة إذا أقسموا عليهم في العمد ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم ، والقول الآخر كقول أبي حنيفة - أن القسامة توجب الدية دون القود في العمد والخطأ جميعا ، إلا أنها في العمد في أموال الجناة ، وفي الخطأ على العاقلة ، والحجة من جهة الأثر في إسقاط القود في القسامة حديث أبي ليلى ، عن سهل ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب ، وتأول من ذهب إلى هذا في قوله : دم صاحبكم ( دية صاحبكم ) ; لأن من استحق دية صاحبه ، فقد استحق دمه ; لأن الدية قد تؤخذ في العمد ، فيكون ذلك استحقاقا للدم .

قال أبو عمر : الظاهر في ذكر الدم القود ، - والله أعلم - ، وسيأتي ذكر حديث أبي ليلى في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله . ويأتي القول في هذا المعنى فيه هناك بعون الله .

[ ص: 222 ] قال أبو عمر : كل من أوجب الحكم بالقسامة من علماء الحجاز والعراق ، فهم في ذلك على معنيين ، وقولين : فقوم أوجبوا الدية والقسامة بوجوب القتيل فقط ، ولم يراعوا معنى آخر ، وقوم اعتبروا اللوث ، فهم يطلبون ما يغلب على الظن ، وما يكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء ، ولم يطلبوا في القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم البت ، وإنما طلبوا شبهة ، وسموه لوثا ; لأنه يلطخ المدعى عليه ، ويوجب الشبهة ، ويتطرق بها إلى حراسة الأنفس ، وحقن الدماء ; إذ في القصاص حياة ، والخير كله في ردع السفهاء والجناة ، وقد قدمنا عن مالك وغيره هذا المعنى ، فلذلك وردت القسامة - والله أعلم - .

ولا أصل لهم ( في القسامة ) غير قصة عبد الله بن سهل الحارثي الأنصاري المقتول بخيبر على ما قد ذكرنا من الروايات بذلك على اختلافها موعبة واضحة في هذا الباب ، والحمد لله .

وفي رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأيمان في القسامة - دليل على رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه عنها في سائر الحقوق ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي في رد اليمين ، وهذا أصلهم في ذلك .

وأما أبو حنيفة ، وأهل العراق ، فهم يقضون بالنكول ، ولا يرون رد يمين في شيء من الحقوق والدعاوى ، والقول برد اليمين أولى وأصح لما روي من الأثر في ذلك ، وأما النكول فلا أثر فيه ، ولا أصل يعضده ، ولم نر في الأصول حقا ثبت على منكر بسبب واحد ، والنكول سبب واحد ، فلم يكن بد من ضم شيء غيره إليه ، كما ضم شاهد إلى شاهد مثله أو يمين الطالب - والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية