الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                834 ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإن قوما احتجوا في ذلك ممن يقول: الإقامة تفرد مرة مرة بالحجة التي ذكرناها لهم في هذا الباب مما يكرر في الأذان ومما لا يكرر، فكانت الحجة عليهم في ذلك: أن الأذان كما ذكروا ما كان منه مما يذكر في موضعين ثني في الموضع الأول وأفرد في الموضع الآخر، وما كان منه غير مثنى أفرد، وأما الإقامة فإنها تفعل بعد انقطاع الأذان، فلها حكم مستقل، وقد رأينا ما تختم به الإقامة من قول لا إله إلا الله هو ما يختم به الأذان من ذلك، فالنظر على ذلك: أن تكون بقية الإقامة على مثل بقية الأذان أيضا، فكان مما يدخل على هذه الحجة: أنا رأينا ما تختم به الإقامة لا نصف له، فيجوز أن يكون المقصود إليه منه هو نصفه إلا [ ص: 50 ] أنه لما لم يكن له نصف كان حكمه كحكم سائر الأشياء التي لا تنقسم مما إذا وجب بعضها؛ وجب بوجوبه كلها، فلهذا صار ما يختم به الأذان والإقامة من قول لا إله إلا الله سواء، فلم يكن في ذلك دليل لأحد المعنيين على الآخر، ثم نظرنا في ذلك، فرأيناهم لم يختلفوا أنه في الإقامة بعد الصلاة والفلاح يقول: الله أكبر الله أكبر، فيجيء به ها هنا على مثل ما يجيء به في الأذان في هذا الموضع أيضا، ولا يجيء به على نصف ما هو عليه في الأذان، فلما كان هذا من الإقامة مما له نصف على مثل ما هو عليه في الأذان أيضا سواء؛ كان ما بقي من الإقامة أيضا هو على مثل ما هو عليه في الأذان أيضا، لا يحذف من ذلك شيء، فثبت بذلك أن الإقامة مثنى مثنى ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما قال الخصم فيما مضى: إن الأذان ما كان منه مكررا لم يثنى في المرة الثانية وجعل على النصف مما هو عليه في الابتداء، وكانت الإقامة لا يبتدأ بها وإنما هي تفعل بعد انقطاع الأذان، وكان النظر على ذلك: أن يكون ما فيها مما هو في الأذان غير مثنى وما فيها مما ليس في الأذان مثنى، فكل الإقامة في الأذان غير "قد قامت الصلاة" فتفرد الإقامة كلها ولا تكرر غير "قد قامت الصلاة" فإنها تكرر لأنها ليست في الأذان.

                                                شرع الطحاوي في الجواب عنه بقوله: "إن الأذان كما ذكروا... " إلى آخره.

                                                تحريره: سلمنا أن الأذان ما كان منه يذكر في موضعين يثنى في الموضع الأول ويفرد في الموضع الآخر، وما كان فيه غير مثنى أفرد ولكن رأينا ما يختم به الإقامة من قول: "لا إله إلا الله" هو ما يختم به الأذان في ذلك، فالنظر والقياس على ذلك: أن تكون بقية الإقامة مثل بقية الأذان أيضا، وبقية الأذان مثنى مثنى، فتكون بقية الإقامة مثنى مثنى كذلك.

                                                حاصل هذا الكلام: أن الخصم لما نظر في إفراد الإقامة إلى كون ألفاظها على النصف مما كان عليه ألفاظ الأذان، بناء على أن ما يكرر في ألفاظ الأذان يجعل على النصف مما هو عليه في الابتداء، نظرنا نحن في كونها مثنى مثنى مثل [ ص: 51 ] الأذان، إلى كون مساواة آخرها بما كان يختم به الأذان، فإذا ساوت الأذان في إفراد اللفظ فيما يختتم به كل منهما؛ كان النظر والقياس أن تساوي بقيتها بقية الأذان، فثني حينئذ، وفيه نظر من جهة الخصم، أشار إليه بقول: فكان مما يدخل على هذه الحجة، وجه النظر: أن ما تختم به الإقامة هو قول لا إله إلا الله لا نصف له؛ لأنه لا يتجزأ، ويجوز أن يكون المقصود إليه منه أي مما يختم به الأذان هو نصفه؛ لأن النظر أن يكون ما في الإقامة نصف ما في الأذان - على ما تقرر - ولكن لما لم يكن له نصف لعدم التجزء كان حكمه كحكم الأشياء التي لا تتجزأ مما إذا وجبت بعضها وجبت به كلها لعدم التجزؤ، فحينئذ تكون مساواة اختتام الإقامة والأذان بقول لا إله إلا الله من أجل هذا المعنى، وهو كونه مما إذا وجب بعضه وجب كله لعدم التجزؤ لا لأجل ما ذكرتم من كونها تختم بما يختم به الأذان، وهو معنى قوله: "فلهذا صار..." إلى آخره. فحينئذ لم يكن لأحد المعنيين دليل على الآخر؛ فنحتاج حينئذ إلى نظر صحيح في كون الإقامة مثل الأذان، فأشار إليه بقوله: "ثم نظرنا في ذلك..." إلى آخره، تحريره: أنا رأيناهم أي الأخصام كلهم لا يختلفون أن المقيم يقول في الإقامة بعد الصلاة والفلاح: الله أكبر الله أكبر، مرتين فيجيء به ها هنا - أي في الإقامة - مثل ما يجيء في الأذان، حيث لم يجعله على النصف مما كان هو عليه في الأذان، والحال: أن هذا ما له نصف لأنه لا يتجزأ، ولما جاء على مثل ما هو عليه في الأذان سواء من غير تنصيف كان النظر على ذلك: أن يكون ما بقي من الإقامة من سائر ألفاظها أيضا على مثل ما هو عليه في الأذان، ولا يحذف من ذلك شيء ولا ينصف، فحينئذ ثبت بذلك أن الإقامة مثنى مثنى كما أن الأذان مثنى مثنى .

                                                قوله: "سواء" نصب على أنه خبر "كان" الذي في قوله: "فلما كان هذا من الإقامة".

                                                وقوله: "كان ما بقي من الإقامة" جواب قوله: "فلما كان" فافهم.




                                                الخدمات العلمية