الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فادفعوا إليهم أموالهم ) والمراد أن عند حصول الشرطين ، أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال إليهم ، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل ؛ لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل ؛ لأنه أمر زائد على العقل .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا ، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) قال الواحدي رحمه الله : استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه ، وقال صاحب " الكشاف " : استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم ؟ وفي هذه المسألة أقوال : أحدهما : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله ، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله تعالى : ( ولا تأكلوها إسرافا ) مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه قال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) فقوله : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه ، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ النساء : 10 ] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) فائدة ، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له : إن تحت حجري يتيما أآكل من ماله ؟ قال : بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله ، قال : أفأضربه ؟ قال : مما كنت ضاربا منه ولدك .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف : سلام عليكم أما بعد : فإني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار ، وربعها لعبد الله بن مسعود ، وربعها لعثمان ، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم : من كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله ؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب ، وعنه أيضا : يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها.

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن الوصي لما تكفل بإصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها ، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم ، فكذا ههنا ، فهذا تقرير هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس . وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها ، فأما التناول من [ ص: 156 ] ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب ، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله تعالى قال : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) فحكم في الأموال بدفعها إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : قال أبو بكر الرازي : الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، سواء كان غنيا أو فقيرا . واحتج عليه بآيات : منها : قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) إلى قوله : ( إنه كان حوبا كبيرا ) ومنها : قوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء : 10 ] . ومنها قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) [ النساء : 127 ] ومنها : قوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : 188 ] قال : فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصيه في حال الغنى والفقر ، وقوله : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات ، وعندي أن هذه الآية لا تدل على ما ذهب الرازي إليه . أما قوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) [ النساء : 2 ] فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة ، والخاص مقدم على العام . وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم ، وهل النزاع إلا فيه ، وهو الجواب بعينه عن قوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : 188 ] أما قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) [ النساء : 127 ] فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط ، والنزاع ليس إلا فيه ، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية