الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ) .

                          هذه الآية عطف على قوله تعالى : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) ( 102 ) وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك ، فقد علم مما تقدم أن المتخلفين منهم المنافقون وهم أكثرهم ، وقد تقدم بيان أقسامهم ومن اعتذر ومن لم يعتذر منهم ومنهم المؤمنون وهم قسمان ( أحدهما ) الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم ، و ( ثانيهما ) الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا للرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لا عذر لهم ، وأرجئوا توبتهم فأرجأ الله الحكم القطعي في أمرهم للحكمة التي يأتي بيانها قريبا . قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم : وهم الثلاثة الذين خلفوا : أي عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا ، فكانت طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون فنزلت توبة أولئك قبل توبة هؤلاء ، وأرجئ هؤلاء عن التوبة حتى نزلت آيتا التوبة الآتيتين ( 117 ، 118 ) ( وآخرون مرجون لأمر الله ) أي وثم أناس آخرون من المتخلفين مؤخرون لحكم الله في أمرهم ، أو لأمره لرسوله بما يعاملهم به . قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( مرجون ) بحذف الهمزة للتخفيف ، والآخرون ( مرجئون ) بالهمزة على الأصل ، فهو اسم مفعول من أرجأه إذا أخره ، وقيل هما لغتان رجاه يرجوه وأرجأه يرجئه . وروي أن هذا الإرجاء كان يوما .

                          [ ص: 30 ] ( إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) أي أبهم الأمر عليهم وعلى الناس ، لا يدرون ما ينزل فيهم ، هل تنصح توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم أم يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين ؟ فالترديد بين الأمرين هو بالنسبة إلى الناس لا إلى الله عز وجل . وحكمة إبهام أمر هؤلاء عليهم إثارة للهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم . وحكمة إبهامه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم - تربية للفريقين على ما يجب في أمثالهم من الذين يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله ؛ لإعلاء كلمة الحق والعدل ودفع عدوان الكفار عن المؤمنين ، حتى كان من أمرهم ما بينه في الآية ( 118 ) ( والله عليم حكيم ) عليم بحال عباده وما يربيهم ويزكيهم ويصلح حال أفرادهم ومجموعهم ، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح ما عملوا بها . ومن آثار علمه وحكمته إرجاء النص على توبتهم في كتابه . ومن هذه الحكمة تكرار تأثير تلاوة المؤمنين للآيات في ذلك في الأوقات المتفرقة ، فإنها من أعظم آيات القرآن ترهيبا وتخويفا ، وعظة وتهذيبا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية