الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والحوادث إذا كانت مستمرة فما انقضت ولا انتهت، فما دخلت في [ ص: 101 ] الوجود. والذي وجد في الماضي فهو متناه ليس هو مما لا يتناهى، وإنما يكون قد دخل ما لا يتناهى إذا كان ممتنعا في الوجود، فيكون قد انقضى، مع كونه غير متناه، وهذا ممتنع.

فأما ما يوجد شيئا بعد شيء، وهو لم يزل ولا يزال، فهذا ليس يجب أن يكون ما دخل منه في الوجود منحصرا أو متناهيا لأنه لم ينقض بل هو متواصل الوجود، والمنقضي عنده ما انقطع وجوده ولم يبق منه شيء، وليست الحوادث المستمرة كذلك.

فلفظ «انقضى» و«انتهى» و«انصرم» ونحو ذلك معناها متقارب. فإذا قال المتكلم: الحوادث الماضية قد انقضت، فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له، كان هذا تلبيسا، فإنها إذا جعلت منقضية، فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية، ومن هذه الجهة هي متناهية، وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء، وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم. فإذا قيل: انصرم وانقضى ما لا يتناهى، كان هذا تناقضا بينا.

والحوادث الماضية ليس لها أول، فإذا قدر أنها انقضت فقد انتهت وانصرمت، فلا يطلق عليها أنها لا تتناهى، مع تقدير أنها منقضية، بل إذا قدر تناهيها فقد انقضت، وإن قدر استمرارها فلم تنقض.

وما ذكره ابن رشد، كما أنه مبطل لقول من يقول بامتناع وجود ما لا [ ص: 102 ] يتناهى في الماضي والمستقبل -كما يقوله من يقوله من المتكلمين- فهو مبطل أيضا لقول إخوانه من الفلاسفة، الذين يقولون بوجود ما لا يتناهى، ولا له أول ولا آخر في قديمين مختلفين، كما يقولونه: إن حركات كل واحد من الأفلاك لا تتناهى ولا لها بداية ولا نهاية، مع أن إحدى الحركات أكثر وأعظم من الأخرى.

كما يقولون: إن القمر يتحرك في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، والفلك المحيط في كل يوم مرة، فهو أعظم مقدارا وأسرع حركة من فلك الشمس والقمر وغيرهما، فإنه محيط بالجميع، فهو أعظم، وهو يتحرك كل يوم الحركة الشرقية التي تحرك بها جميع الأفلاك، وليس في الأفلاك ما يتحرك كل يوم غيره، فتكون حركته أكبر وأكثر من حركة سائر الأفلاك: فلك الشمس والقمر وغيرهما، فإن الأيام أكثر عددا من الشهور، والشهور أكثر عددا من الأعوام.

ونفس المتحرك كل يوم حركته أعظم مقدارا مما يتحرك في الشهر والعام، مع أن كلا من هذه الحركات ليس لها أول ولا آخر عندهم، فيلزم من ذلك أن يكون ما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر، كحركة فلك القمر والشمس، يقبل أن يزاد عليه أضعافا مضاعفة، بل وجد ما هو بقدره أضعافا مضاعفة، وهو حركة الفلك المحيط، فيكون ما لا يتناهى من [ ص: 103 ] الجانبين وليس له أول ولا آخر، أعظم مما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر وأكبر منه، وهذا هو الذي بين ابن رشد وغيره من النظار أنه ممتنع.

ولا يلزم هذا أئمة أهل الملل الذين قالوا: إن الرب يفعل أفعالا، أو يقول كلمات لا نهاية لها، ليس لها أول ولا آخر. فإن هؤلاء يقولون: لا قديم إلا الله وحده، وما سواه محدث مخلوق، فلم يقم بغيره ولا يصدر عن غيره ما لا يتناهى، وإنما ذلك له وحده، فلم يكن لغيره ما لا يتناهى من الطرفين، لا أقل مما له ولا أكثر.

وذلك أن ابن رشد عنده ما لا يتناهى هو ما لا أول له ولا آخر، فما كان له منتهى ينتهي إليه محدود، فلا بد أن يكون له مبدأ محدود، فلا يتناهى شيء في النهاية إلا وله مبدأ محدود.

ولهذا قال: (وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها؛ لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما) إلى قوله: (إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي: أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد، وأن ما مضى قد انقضى وانصرم، وما انقضى وانصرم فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه، فهو قول حق) ومراده [ ص: 104 ] بذلك أن الذي ينقضي وينصرم هو ما له مبتدأ. وأما ما لا ابتداء له فلا انتهاء له ولا ينقضي ولا ينصرم

ولهذا قال: (إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة، وذلك أنه لم يكن هناك حركة، واجب أن تكون أولى بحيث يستحيل أن تكون قبلها حركة، فليس يجب أن يكون ها هنا جملة دخلت في الوجود، ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود. والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية، إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد).

إلى قوله: (فمن أين يلزم -ليت شعري- إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد، أن يكون ها هنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا؟).

قال: (والأصل في هذا كله ألا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده، وما انقضى، ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده).

إلى قوله: (لأن المتناهي هو الذي يمكن أن يزاد عليه شيء. وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن قبلها جملة أخرى. وهذا هو حد ما لا يتناهى الجائز الوجود). [ ص: 105 ]

وقد قال قبل ذلك: (لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما). إلى قوله: (ولا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم من هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها) فمن تدبر كلامه تبين له ما قلناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية