الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهان

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة " يقولون " مستشكل من ثلاث جهات :

                                                                                                                                                                                                                                      الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون ، دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة . والمعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معا كقولك : جاء زيد وعمرو راكبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين [ 14 \ 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الإشكال ساقط ; لجواز إتيان الحال من المعطوف فقط دون المعطوف عليه ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، فقوله صفا حال من المعطوف وهو الملك ، دون المعطوف عليه وهو لفظة : ربك . وقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية [ 59 \ 10 ] ، فجملة يقولون حال من واو الفاعل في قوله : الذين جاءوا ، وهو معطوف على قوله : للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وقوله : والذين تبوءوا الدار والإيمان [ 59 \ 9 ] ، فهو حال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه ابن كثير وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      الجهة الثانية من جهات الإشكال المذكورة هي ما ذكره القرطبي عن الخطابي قال عنه : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين : [ ص: 195 ] آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ; لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكبا يعني : أقبل عبد الله راكبا ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالا له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب :

                                                                                                                                                                                                                                      [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا

                                                                                                                                                                                                                                      أي يقصر ماشيا وهذا الإشكال أيضا ساقط ; لأن الفعل العامل في الحال المذكورة غير مضمر ; لأنه مذكور في قوله يعلم ولكن الحال من المعطوف دون المعطوف عليه ، كما بينه العلامة الشوكاني في " تفسيره " وهو واضح .

                                                                                                                                                                                                                                      الجهة الثالثة من جهات الإشكال المذكورة هي : أن المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها ، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو يعلم بهذه الحال التي هي يقولون آمنا ; إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم آمنا به ; لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا به لا يعلمون تأويله وهو باطل ، وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف .

                                                                                                                                                                                                                                      التنبيه الثاني : إذا كانت جملة يقولون : لا يصح أن تكون حالا لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة . الجواب : والله تعالى أعلم أنها معطوفة بحرف محذوف والعطف بالحرف المحذوف ، أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربية . والتحقيق جوازه ، وأنه ليس مختصا بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربية ، والدليل على جوازه وقوعه في القرآن ، وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى : وجوه يومئذ ناعمة الآية [ 88 \ 8 ] ، فإنه معطوف بلا شك على قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة [ 88 ] ، بالحرف المحذوف الذي هو الواو ويدل له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى في سورة " القيامة " : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة الآية [ 22 ، 24 ] ، وقوله تعالى في " عبس " : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة الآية [ 40 \ 38 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت [ ص: 196 ] الآية [ 9 \ 92 ] ، قال : يعني وقلت : بالعطف بواو محذوفة وهو أحد احتمالات ذكرها ابن هشام في [ المغني ] ، وجعل بعضهم منه : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، على قراءة فتح همزة إن قال : هو معطوف بحرف محذوف على قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو [ 3 \ 18 ] ، أي : وشهد أن الدين عند الله الإسلام وهو أحد احتمالات ذكرها صاحب " المغني " أيضا ومنه حديث : " تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره " يعني ومن درهمه ومن صاع إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      حكاه الأشموني وغيره ، والحديث المذكور أخرجه مسلم ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ومن شواهد حذف حرف العطف قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ الخفيف ]

                                                                                                                                                                                                                                      كيف أصبحت كيف أمسيت مما     يغرس الود في فؤاد الكريم



                                                                                                                                                                                                                                      يعني : وكيف أمسيت وقول الحطيئة : [ البسيط ] إن امرأ رهطه بالشام منزله برمل يبرين جار شد ما اغتربا

                                                                                                                                                                                                                                      أي : ومنزله برمل يبرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الجملة الثانية صفة ثانية لا معطوفة وعليه فلا شاهد في البيت ، وممن أجاز العطف بالحرف المحذوف الفارسي وابن عصفور خلافا لابن جني والسهيلي .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا شك أن في القرآن أشياء لا يعلمها إلا الله كحقيقة الروح ; لأن الله تعالى يقول : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية [ 17 \ 85 ] ، وكمفاتح الغيب التي نص على أنها لا يعلمها إلا هو بقوله : وعنده مفاتح الغيب الآية [ 6 \ 59 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية [ 31 ] . وكالحروف المقطعة في أوائل السور وكنعيم الجنة لقوله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] ، وفيه أشياء يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم كقوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 94 ] ، وقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، مع قوله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، وقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وكقوله : وروح منه [ 4 \ 171 ] ، والرسوخ والثبوت . ومنه قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ الطويل ] [ ص: 197 ]

                                                                                                                                                                                                                                      لقد رسخت في القلب مني مودة     لليلى أبت آياتها أن تغيرا



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية