الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال ابن رشد: وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين: إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو عليه، [ ص: 108 ] أو شكل آخر غير الشكل الذي هو عليه، أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه، أو يكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار أن تتحرك إلى أسفل، وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية، وفي الغربية أن تكون شرقية.

والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث، أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالجائز الآخر.

قال: فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادي الرأي، وهي في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسها، مثل كون الإنسان موجودا على خلقة غير هذه الخلقة التي هو عليها، وفي بعضه الأمر فيه مشكوك، مثل كون الحركة الشرقية غربية، والغربية شرقية؛ إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه؛ إذ كان يمكن أن يكون ذلك لعلة غير بينة الوجود بنفسها، أو تكون من العلل الخفية على الإنسان. [ ص: 109 ]

ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء، شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات، من غير أن يكون من أهل تلك الصنايع. وذلك أن هذا الذي شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات -أو جلها- ممكن أن يكون على خلاف ما هي عليه ويوجد على ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله، أعني غايته، فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة.

وأما الصانع الذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك، فقد يرى أن الأمر بضد ذلك، وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري، أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه، وهذا هو معنى الصناعة.

والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع، فسبحان الخلاق العظيم! وهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع، ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع، فلا تصلح لهم. وإنما صارت مبطلة للحكمة -لأن الحكمة ليست شيئا أكثر من معرفة [ ص: 110 ] أسباب الشيء، وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده -على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجودا، فليس هنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره، كما أنه لو لم تكن أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة، لم يكن هنالك صناعة أصلا، ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع. وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق، أو بغير عضو، حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالآذان كما بالعين، والشم بالعين كما يتأتى بالأنف. وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية