الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: مراد ابن رشد أن المفعول لا يكون قديما أزليا فإن الضروري عنده وعند عامة العقلاء، حتى أرسطو وأتباعه، وحتى ابن سينا وأتباعه -وإن تناقصوا- هو القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه في الماضي والمستقبل. وهذا يمتنع أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم، بل هذا لا يكون إلا محدثا، والمحدث يمتنع أن ينقلب قديما؛ فلهذا قال: الممكن يمتنع أن يكون ضروريا.

وأما كون الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه، وهو المحدث، يصير واجب الوجود بغيره، فهذا لا ريب فيه، وما أظن ابن رشد ينازع في هذا.

ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا. وهذا حق، وإن قاله ابن سينا، فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلا.

بل مذهب أهل السنة أنه ما شاء الله كان فوجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن فامتنع وجوده. وهذا يوافق عليه جماهير الخلق، فإن هؤلاء يقولون: كل ما سوى الله ليس له من نفسه وجود. وهذا يعنون بكونه ممكنا، لا يعنون بذلك أنه يمكن أن لا يوجد، فهو واجب بغيره، غير واجب بنفسه. [ ص: 114 ]

ولهم نزاع فيما إذا عدم. هل يقولون: عدم لعدم موجبه أو لا يعلل عدمه؟ بل ليس له من نفسه وجود، وإنما وجوده بفاعله. فإذا لم يفعله فاعل بقي على العدم المستمر. هذا فيه نزاع لفظي اعتباري.

وتحقيق الأمر أن عدم علته مستلزم لعدمه، لا أن عدم علته فعل عدمه وأوجب عدمه، ولكن يلزم من عدم علته عدمه.

فإن أريد بالعلة في عدمه المؤثر في عدمه، فعدمه المستمر لا يحتاج إلى مؤثر. وإن أريد به المستلزم لعدمه، فلا ريب أن عدم علته مستلزم لعدمه.

وهؤلاء يقولون: إن الجائزات صنفان: صنف هو جائز باعتبار فاعله، وصنف هو واجب باعتبار فاعله. بل الجائزات الموجودة كلها واجبة باعتبار فاعلها، وما لم يوجد من الجائزات، فهو جائز باعتبار نفسه، وهو ممتنع لغيره.

فكما أن ما وجد من الممكنات فهو واجب لغيره لا لنفسه، فما لم يوجد منها، فهو ممتنع لغيره لا لنفسه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاء أن يكون، فلا بد أن يكون، وليس هو واجبا بنفسه، ولا له من نفسه وجوده، بل الله مبدعه. [ ص: 115 ]

وما لم يشأ لم يكن، فإنه يمتنع وجود شيء بدون مشيئة الله تعالى، وإن كان الله قادرا عليه، وهو ممكن في نفسه، أي يمكن أن يخلقه الله، لو شاء الله خلقه.

فهذا الباب كثير من النزاع فيه لفظي. وهم لا يعنون بكونه ممكنا باعتبار ذاته، أنه متى توهم فاعله مرتفعا ارتفع هو. ولكن ابن سينا وأتباعه الذين يقولون: إن الفلك قديم أزلي، وهو مع هذا ممكن، يعنون ذلك.

وأما عامة العقلاء فيعنون بذلك أنه لا يوجد بنفسه، وأنه باعتبار نفسه يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد. وما كان كذلك فهو محدث.

ولا ريب أنه مع هذا واجب بغيره حين وجوده لا قبل وجوده يمتنع ارتفاعه حين وجوده، لامتناع ارتفاع فاعله، ولا يمتنع ارتفاعه مطلقا، إذا كان معدوما فوجد، فارتفاعه مستحيل حين وجوده، لازم عن مستحيل.

والذي ينكره جمهور العقلاء -ابن رشد وغيره- على ابن سينا ومن وافقه من المتأخرين، قولهم بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا واجبا بغيره، فهذا مما ينكره الجمهور

التالي السابق


الخدمات العلمية