الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما

الإشارة بـ "هؤلاء" إلى كفار قريش، و"العاجلة" الدنيا، وحبهم لها، أنهم لا يعتقدون غيرها، ويذرون وراءهم معناه: فيما يأتي من الزمن بعد موتهم، وقال لبيد : [ ص: 499 ]


أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع



ووصف اليوم بالثقل على جهة النسب، أي: ذا ثقل من حيث الثقل فيه على الكفار، فهو كليل نائم.

ثم عدد النعمة على عباده في خلقهم وإيجادهم وإتقان بنيتهم وشد خلقتهم، و"الأسر": الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل، وقد قال أبو هريرة ، والحسن ، والربيع : الأسر: المفاصل والأوصال, وقد قال بعضهم: الأسر: القوة، ومنه قول الشاعر:


فأنجاه غداة الموت مني     شديد الأسر عض على اللجام



وقول الآخر :


من كل مجتنب شديد أسره     سلس القياد تخاله مختالا



قال الطبري : ومنه قول العامة: "خذه بأسره" يريدون: خذه كله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأصل هذا في ما له شد ورباط كالعظم ونحوه، وليس هذا مما يختص بالعامة، بل [ ص: 500 ] هو من فصيح كلام العرب. اللهم إلا أن يريد بالعامة جمهور العرب ومن اللفظة "الإسار" وهو القيد الذي يشد به الأسير.

ثم توعد تعالى بالتبديل واجتمع من القولين تعديد النعمة والوعيد بالتبدل احتجاج على منكري البعث، أي من هذا الإيجاد والتبديل -إذا شاء- في قدرته، فكيف تتعذر عليه الإعادة؟.

وقوله تعالى: إن هذه تذكرة يحتمل أن يشير إلى هذه الآية أو إلى السورة بأسرها أو إلى الشريعة بجملتها, وقوله تعالى: فمن شاء ليس على جهة التخيير بل فيه قرينة التحذير والحض على اتخاذ السبيل، و"السبيل" هنا: ليس النجاة.

وقوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب والميل إلى الكفر, وقرأ عبد الله "وما تشاءون إلا ما شاء الله", وقرأ يحيى بن وثاب "تشاءون" بكسر التاء. وقوله تعالى: عليما حكيما معناه يعلم ما ينبغي أن ييسر عبده إليه، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلا هو.

و"الظالمين" نصب بإضمار فعل تقديره: ويعذب الظالمين أعد لهم، وفي قراءة ابن مسعود "وللظالمين أعد لهم" بتكرير اللام، وقرأ جمهور السبعة "وما تشاءون" بالتاء على المخاطبة, وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "يشاءون" بالياء، وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة "والظالمون" بالرفع، قال أبو الفتح: وذلك على ارتجال جملة مستأنفة.

تم تفسير سورة [الإنسان] والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية