الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة، أي: عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة، وإما عن الإرادة. والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة. مثال ذلك أن السقمونيا ليس تجذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر. وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة. ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه، من الجو الذي خلق فيه، يريد الخلاء؛ لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء، فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة. [ ص: 126 ]

قال: والمقدمة القائلة: إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة، والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها، ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم، وهو أن يكون قديما؛ لأنه إن كان محدثا احتاج إلى خلاء.

قلت: أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين، فيناقض ما قد ذكر أولا من أنه لا بد في المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر. والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة. ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة، بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به، وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول.

ومتى سلم هذا أمكن أن يقال: إن مجرد اختيار الفاعل، وهي إرادته، خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل، وبقدر دون قدر، وبوصف دون وصف.

وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به، فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمرا واحدا وجوديا يكون العالم فيه، بل هم يقولون: إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة، وإن كان ما وراءه عدم محض، وتسمية ذلك موضعا، كقول القائل: العالم في موضع. ولفظ «الموضع» و«المكان» و«الحيز» يراد به أمر موجود وأمر معدوم. [ ص: 127 ]

قال ابن رشد: وأما المقدمة القائلة: إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين. وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل، فهي مع فعل المراد نفسه؛ لأن الإرادة من المضاف. وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل، وجد الآخر بالفعل، مثل الأب والابن. وإذا وجد أحدهما بالقوة، وجد الآخر بالقوة، فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة، فالمراد لا بد حادث، وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة، فالمراد الذي بالفعل قديم. وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل، إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد. ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل؛ إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل. فإذا لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثا ولا بد.

قال: والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور [ ص: 128 ] ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة، بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة. وذلك قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [سورة النحل: 40] وإنما كان ذلك كذلك؛ لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة، بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم؛ لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر، وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم؛ لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها، وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث، وسنبين هذا المعنى بيانا أتم عند القول في الإرادة. قلت: الكلام في الإرادة وتعددها، أو وحدة عينها، أو عمومها، أو خصوصها وقدمها، أو حدوثها أو حدوث نوعها، أو عينها. وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه، وهي من أعظم محارات النظار.

التالي السابق


الخدمات العلمية