الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه، لكن نفس تسليم [ ص: 129 ] الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه، بل تسليم كون الشيء مفعولا يستلزم حدوثه. فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا لفاعله المريد له، الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم، فهذا مما يعلم جمهور العقلاء فساده بضرورة العقل.

وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريدا لأن يفعل شيئا بعد شيء، يكون كل ما سواه حادثا كائنا بعد أن لم يكن، وتكون الإرادة قديمة، بمعنى أن نوعها قديم، وإن كان كل من المحدثات مرادا بإرادة حادثة.

قال: فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقا نظرية يقينية، ولا طرقا شرعية يقينية. وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز، على هذا المعنى، أعني معرفة وجود الصانع تعالى. وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما: أن تكون يقينية. والثاني: أن تكون بسيطة غير [ ص: 130 ] مركبة، أعني قليلة المقدمات، فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول.

قال ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقا نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة.

وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب. ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة. ونحن نقول: إن هذه الطريقة، وإن سلمنا وجودها، فليست عامة للناس بما هم ناس. ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس، لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها في الإنسان عبثا.

مثل قوله تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله [سورة البقرة: 282]. ومثل قوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [سورة العنكبوت: 69]، ومثل قوله: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [سورة الأنفال: 29]، إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى.

[ ص: 131 ]

والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر، نعم لسنا ننكر أن إماتة الشهوات قد تكون شرطا في صحة النظر، لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطا فيها، كما أن الصحة شرط في العلم، وإن كانت ليست مفيدة له.

ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها، كما ظن القوم، بل إن كانت نافعة في النظرية، فعلى الوجه الذي بينا. وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه.

قلت: العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به؛ لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على حصول العلم النافع، كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح، كما أن الشرع أمر بالعلم بالله تعالى؛ لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع. [ ص: 132 ]

قال ابن رشد: وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئا من جنس طرق الأشعرية.

قلت: طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية، وإنما أخذها من أخذها من الأشعرية عنهم، والمعتزلة هم الأصل في هذه الطريقة، وعنهم انتشرت، وإليهم تضاف؛ ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم، وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، ذم هذه الطريقة، كما تقدم ذكر كلامه في ذلك، فذمها وعابها موافقة للسلف والأئمة في ذلك.

وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية، فرأى اعتمادهم عليها، فذلك تكلم عليها.

وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري، وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد، حتى في كتابه الذي سماه «غرر الأدلة». [ ص: 133 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية