الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه ، فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنيا ، وتارة يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذا لم يقم دليل أحدهما ، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به ، وتارة يجزم بصدقه جزما لا يبقى معه شك ، فليس خبر واحد يفيد العلم ولا الظن ، ولا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقا أنه يحصل العلم ، فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإلا اجتمع النقيضان ، بل نقول خبر الواحد يفيد العلم في مواضع :

أحدها : خبر من قام الدليل القطعي على صدقه ، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به .

الثاني : خبر الواحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصدقه كخبر المخبر الذي أخبر بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع " فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له ، وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل البرد المحبر فقال : " قد رأيته " ومن هذا ترتيبه صلى الله عليه وسلم على خبر المخبر له مقتضاه كغزو من أخبره بنقض قوم العهد وخبر من أخبره عن رجل أنه شتمه ونال من عرضه فأمر بقتله .

فهذا تصديق للمخبر بالفعل ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة الدجال ، وروى ذلك عنه على المنبر ، ولم يقل أخبرني جبريل عن الله ، بل قال : ( حدثني تميم الداري ) ومن له أدنى معرفة بالسنة [ ص: 552 ] يرى هذا كثيرا فيما يجزم بصدق أصحابه ، ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال .

ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع ، لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم ونجزم به جزما ضروريا لا يمكنا دفعه عن نفوسنا ، ومن هذا أنه كان يجزم بصدقهم فيما يخبرونه به من رؤيا المنام ، ويجزم لهم بتأويلها ويقول إنها رؤيا حق ، وأثنى الله تعالى عليه بذلك في قوله : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين وأثنى عليه ومدحه بتصديقه لمن أخبره من المؤمنين .

ومن هذا إخبار الصحابة بعضهم بعضا فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتوافر ، وتوقف من توقف منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد عن كونه خبر واحد ، وإنما كان يستثبت أحيانا نادرة جدا إذا استخبر .

ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبو ذر ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر وأمثالهم من الصحابة ، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث ، ولم يقل له أحد منهم يوما واحدا من الدهر : خبرك خبر واحد لا يفيد العلم ، وكان حديث رسوله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك ، وكان المخبر لهم أجل في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقول له مثل ذلك .

وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة ، وضحكه وفرحه وإمساك سماواته على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له .

من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ، ولم يترتب فيها حق حتى [ ص: 553 ] أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر كما استظهر عمر رضي الله عنه برواية أبي سعيد الخدري على خبر أبي موسى ، كما استظهر أبو بكر رضي الله عنه برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة بن شعبة في توريث الجدة ، ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها ، وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع .

فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة بإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة ، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء ، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم .

فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي .

قال ابن خواز منداد في كتاب أصول الفقه ، وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان ، ويقع بهذا الضرب أيضا العلم الضروري نص على ذلك مالك ، وقال أحمد في حديث الرؤية : نعلم أنها حق ، ونقطع على العلم بها ، وكذلك روى المروذي قال : قلت لأبي عبد الله : هاهنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما فعابه ، وقال : لا أدري ما هذا ، وقال القاضي : وظاهر هذا إنه يسوي بين العلم والعمل . وقال القاضي في أول المخبر : خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول ، وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول ، قال : والمذهب على ما حكيت لا غير .

فقد صرح بأن هذا هو المذهب ، ونص في رواية أحمد بن الحسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنه رواية أخرى تدل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم ، فإنه قال في رواية المروذي : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت به ودنت الله به ، ولا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وسيأتي الكلام على معنى هذه الرواية إن شاء الله تعالى .

[ ص: 554 ] وقال ابن أبي يونس في أول الإرشاد : وخبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعا ، ونص القاضي أبو يعلى على أن هذا القول في الكفاية .

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتبه الأصول كالتبصرة وشرح اللمع وغيرهما وهذا لفظه في الشرح : وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل سواء عمل به الكل أو البعض ، ولم يحك فيه نزاعا بين أصحاب الشافعي ، وحكى هذا القول القاضي عبد الوهاب من المالكية عن جماعة من الفقهاء ، وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم ، ومثلوه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " قالوا : مع أنه إنما روي من طريق الآحاد ، قالوا : ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا أن القول قول البائع أو يترادان ، قالوا : ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس ، قالوا : وكذلك حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس ، قد اتفق السلف والخلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها ، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها ، وإن قد خالف فيها قوم فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع .

قال : وإنما قلنا ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل أنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبيت فيه ولا معارضة بالأصول أو يخبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار والنظر فيها وعرضها على الأصول ، دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يصيروا إلى حكمه إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته ، فأوجب لنا العلم بصحته ، هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه أصول الفقه .

ومن المعلوم لكل ذي حس سليم وعقل مستقيم استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من الصفات ، وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين ، وحديث لا وصية لوارث ، وحديث فرض الجدة ، بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات واستفاضة هذه الأحاديث فهل يسوغ لعاقل أن يقول إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه ، إلا أن يكون مباهتا .

وقد صرح الشافعي في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم ، نص على ذلك صريحا [ ص: 555 ] في كتابه اختلاف مالك ، ونصره في الرسالة المصرية على أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر المتواتر ، ونحن نذكر لفظه في الكتابين .

قال في الرسالة : فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل ، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد ، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب ، وقلنا ليس لك إن كنت عالما أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول وإن أمكن فيهم الغلط ، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم ، والله ولي ما غاب عنك من ذلك . اه .

فهذا نصه في خبر يحتمل التأويل ليس معه غير كونه خبر واحد ، وهذا لا تنازع فيه فإنه يحتمل سندا ومتنا ، وكلامنا في أخبار تلقيت بالقبول واشتهرت في الأمة وصرح بها الواحد بحضرة الجمع ، ولم ينكره منهم منكر ، بل قبله السامع وأثبت به صفة الرب تعالى ، وأنكر على من نفاها ، كما أنكر جميع أئمة الإسلام على من نفى صفات الرب الخبرية ونسبوه إلى البدعة .

وأما ما ذكره في كتابه الأخير فقال : فقلت له يعني من يناظره أرأيت إن قال لك قائل : أتهم جميع ما رويت عمن رويته عنه ، فإني أخاف غلط كل محدث عنهم عمن حدث عنه إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ، فلا يجوز أن يتهم حديث أهل الثقة ، قلت : فهل رواه أحد منهم إلا واحد عن واحد ؟ قال : لا ، قلت : وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد عن واحد ، قال : نعم ، قلت : فإنما علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بصدق المحدث عندنا وعلمنا أن من سمينا قوله بحديث واحد ، قال : نعم ، قلت : وعلمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله علمنا بأن من سميناه قاله ، قال : نعم ، قلت فإذا استوى العلمان من خبر الصادق فأولى بنا أن نصير إليه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ به أو الخبر عمن دونه ، قال : بل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ثبت ، قلت : ثبوتهما واحد ، قال : فالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا أن نصير إليه ، وإن أدخلتم على المخبرين عنه أنه يمكن فيهم الغلط دخل عليكم في كل حديث روي مخالف الحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فإن قلت : نثبت بخبر الصادقين ) فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى عندنا أن يؤخذ به .

[ ص: 556 ] فقد نص كما ترى بأنه إذا رواه واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله يصدق الراوي عندنا ولا يناقض ، هذا نصه في الرسالة ، فإنه إنما نفى هناك أن يكون المعلم المستفاد منه مساويا للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر التواتر ، وهذا حق فإن العلم يتفاوت في القوة والضعف ، وقد قال القاضي في رواية حنبل عن أحمد في أحاديث الرؤية : نؤمن بها ونعلم أنها حق ، قال : فقطع على العلم بها ، وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من أصحابنا ، وقالوا : خبر الواحد إن كان شرعيا أوجب العلم ، قال : وهذا محمول عندي على وجه صحيح من كلام أحمد ، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال لا من جهة الضرورة .

والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه :

أحدها : أن تتلقاه الأمة بقبول ، فيدل ذلك على أنه حق ؛ لأن الأمة لا تجتمع على خطأ ، وإن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته ؛ لأن العادة أن خبر الواحد الذي لم تقم به الحجة لا تجتمع الأمة على قبوله ، وإنما يقبله قوم ويرده قوم ، الثاني : خبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو واحد فيقطع بصدقه ؛ لأن الدليل قد دل على عصمته ، الثالث : أن يخبر الواحد ويدعي أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره ، ويدل على أنه حق أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الكذب .

الرابع : أن يخبر الواحد ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه منه ، فلا ينكره منهم أحد ، فيدل على أنه صدق ، لأنه لو كان كذبا لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه ، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب ، لأنه واقع عن نظر واستدلال . .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قلت حصره لأخبار الآحاد الموجبة للعلم ليس بجامع ؛ لأن مما يوجب العلم ما تلقاه الرسول أيضا بالقبول ، كأخباره عن تميم الداري وبما أخبر به مصدقا له فيه ، ومنها إخبار شخصين عن قصة يعلم أنهما لم يتواطآ عليها ويبعد في العادة الاتفاق على الكذب فيها والخطأ وغير ذلك .

قلت : أخبار الآحاد الموجبة للعلم ولا تنحصر ، بل يجد المخبر علما لا يشك فيه بكثير منها ، كما إذا أخبره من لم يجرب عليه كذبا قط أنه شاهده ، فإذا يجزم به جزما ضروريا أو يقارب الضرورة ، وكما إذا أخبر عليه في الإخبار به ضرر ، فأخبر به تدينا وخشية لله تعالى ، كما إذا أتى بنفسه اختيارا وأخبر عن نفسه بحد ارتكبه يطلب تطهيره منه بالحد ، أو أقر على نفسه بحق ادعي به عليه حيث لا بينة ولا يمين يطلب منه ، ولا [ ص: 557 ] مخافة تلحقه في الإنكار ، أو أخبر المفتي بأمر فعله ليحصل له المخرج منه ، أو أخبر الطبيب بألم يجده ، يطلب زواله إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأخبار التي يقطع السامع بصدق المخبر بها ، فكيف ينشرح صدرا وينطلق لسانا بأن خبر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم إذا قالوا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا أنها لا تفيد علما البتة ، سبحانك هذا بهتان عظيم .

ونحن نشهد بالله أن هؤلاء كانوا إذا أخبروا عن رسول الله بخبر جزم بصدقهم ، ونشهد بالله أنهم كانوا إذا أخبروا سواهم من الصحابة والتابعين جزم بصدقهم ، بل نشهد بالله أن سالما ونافعا وسعيد بن المسيب وأمثالهم بهذه المنزلة ، بل مالك والأوزاعي والليث ونحوهم كذلك ، فلا يقع عندنا ولا عند من عرف القوم الاحتمال فيما يقول فيه مالك : سمعت نافعا يقول سمعت ابن عمر يقول ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ، ونحن قاطعون بخطأ منازعينا في ذلك .

وقد ذهبت جماعة من أهل الأصول على أن الإجماع إذا انعقد على العمل بخبر الواحد صار كالمتواتر ، حكى ذلك ابن برهان واختار أنه لا يصير كالمتواتر ، وذهب جماعة إلى أن الواحد إذا ادعى على جماعة بحضرتهم صدقه فسكتوا صار خبره كالمتواتر ، وقد ذهب جماعة من أصحاب أحمد وغيرهم إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل ، والتكفير مذهب إسحاق بن راهويه ، وإنما أتي منكر إفادة خبر الواحد للعلم من جهة القياس الفاسد ، فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرع عام للأمة أو بصفة من صفات الرب تعالى على خبر الشاهد على قضية معينة ، ويا بعد ما بينهما فإن المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قدر أنه كذب عمدا أو خطأ ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم على ذلك إضلال الخلق ، إذ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرب وأفعاله ، فإن ما يجب قبوله شرعا من الأخبار لا يكون باطلا في نفس الأمر ، ولا سيما إذا قبلته الأمة كلهم ، وهكذا يجب أن يقال في كل دليل يجب اتباعه شرعا لا يكون إلا حقا ، فيكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر .

هذا فيما يخبر به عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين فهذه قد لا يكون مقتضاها ثابتا في نفس الأمر .

[ ص: 558 ] وحرف مسألة أنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة وتعرف به إليهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذبا وباطلا في نفس الأمر فإنه من حجج الله على عباده ، وحجج الله لا تكون كذبا وباطلا ، بل لا تكون إلا حقا في نفس الأمر ، ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل ، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبها للوحي الذي أنزله على رسوله وتعبد به خلقه ، بحيث لا يتميز هذا من هذا فإن الفرق بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ووحي الشيطان ووحي الملك عن الله أظهر من أن يشتبه أحدهما بالآخر ، ألا وقد جعل الله على الحق نورا كنور الشمس يظهر للبصائر المستنيرة ، وألبس الباطل ظلمة الليل ، وليس بمستنكر أن يشتبه الباطل بالنهار على أعمى البصر ، كما يشتبه الحق والباطل على أعمى البصيرة .

قال معاذ بن جبل في قضيته ، تلق الحق ممن قاله ، فإن على الحق نورا ، ولكن لما أظلمت القلوب وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال ، التبس عليها الحق بالباطل ، فجوزت على أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذبا ، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلفة التي توافق أهواءها أن تكون صدقا فاحتجب بها .

وسر المسألة أن خبر العدول الثقات الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذبا وخطأ ولا ينصب الله دليلا على ذلك ، فمن قال إنه يوجب العلم يقول لا يجوز ذلك بل متى وجدت الشروط الموجبة للعمل به وجب ثبوت مخبره في نفس الأمر ، وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه لكونه من الحجج العلمية كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع أن من رد الخبر الصحيح اعتقادا لغلط الناقل أو كذبه أو لاعتقاد الراد أن المعصوم لا يقول هذا ، أو لاعتقاد نسخه ونحوه ، فرده اجتهادا وحرصا على نصر الحق ، فإنه لا يكفر بذلك ولا يفسق فقد رد غير واحد من الصحابة بعض أخبار الآحاد الصحيحة ، كما رد عمر حديث فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقة المطلقة ثلاثا ، وكما ردت عائشة رضي الله عنها حديث ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وغير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية