الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا أهلت المرأة بحجة الإسلام لم يكن لزوجها أن يمنعها إذا كان معها محرم ، وإن لم يكن معها محرم كان له أن يمنعها وهي بمنزلة الحرة المحصرة ، وقد بينا فيما تقدم أن من شرائط وجوب الحج عليها في حقها المحرم عندنا ، ثم يشترط أن تملك قدر نفقة المحرم ; لأن المحرم إذا كان يخرج معها فنفقته في مالها إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى يقول : نفقة المحرم في ماله ; لأنه غير مجبر على الخروج ، فإذا تبرع به لم يستوجب بتبرعه النفقة عليها ، ولكن في ظاهر الرواية هي لا تتوسل إلى الحج إلا بنفقة المحرم كما لا تتوسل إلى الحج إلا بنفقتها فكما يشترط لوجوب الحج عليها ملك الزاد والراحلة ويجعل ذلك شرطا لنفسها فكذلك للمحرم الذي يخرج معها يجعل ذلك شرطا ، وقد بينا شرائط الوجوب فيما سبق ، ولم يتعرض في شيء من المواضع لا من الطريق واختلف مشايخنا أن أمن الطريق شرط للوجوب أم شرط للأداء ؟ وكان ابن أبي شجاع رحمه الله تعالى يقول : هو شرط للوجوب ; لأن بدونه يتعذر الوصول إلى البيت إلا بمشقة عظيمة فيكون شرط الوجوب كالزاد والراحلة ، وكان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول : هو شرط الأداء ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم { لما سئل عن الاستطاعة فسرها بالزاد والراحلة } ، ولا تجوز الزيادة في شرط وجوب العبادة بالرأي ، ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل الشرك في ذلك الموضع ، ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الطريق فدل أن ذلك ليس من شرائط الوجوب إنما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجيء وملك نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير ، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى مع ذلك زيادة نفقة شهر ; لأن الظاهر أنه إذا رجع لا يشتغل بالكسب إلا بعد مدة فاستحسن اشتراط ملك نفقة شهر بعد رجوعه ، ثم بعد استجماع شرائط الوجوب يجب على الفور حتى يأثم بالتأخير عند أبي يوسف رواه عنه بشر بن المعلى ، وهكذا ذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة [ ص: 164 ] رحمهما الله تعالى - قال : سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال : بل يحج به فذلك دليل على أن الوجوب عنده على الفور .

وعن محمد رحمه الله تعالى يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخر حتى مات فهو آثم بالتأخير ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يأثم بالتأخير ، وإن مات واستدل محمد بتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج بعد نزول فرضيته فإنها نزلت فرضية الحج في سنة ست من الهجرة وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة عشر . والمعنى فيه أن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه ولا يستغرق جميع العمر أداؤه فصار جميع الوقت في حق الحج كجميع وقت الصلاة في حق الصلاة وهناك التأخير يسعه بشرط أن لا يفوته عن وقته ، ودليل صحة هذا الكلام أنه إذا أخره كان مؤديا لا قاضيا فدل أن جميع العمر وقت أدائه وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - استدلا بقوله صلى الله عليه وسلم { من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا } الحديث ، وقال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أنظر إلى من ملك الزاد والراحلة ، ولم يحج فأحرق عليهم بيوتهم ، والله ما أراهم مسلمين قالها ثلاثا .

والمعنى فيه أن السنة الأولى بعد ما تمت الاستطاعة متعينة لأداء الحج بعد دخول وقت الحج فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الصوم عن شهر رمضان وتأخير الصلاة عن وقتها بيانه وهو أن يمضي هذا الوقت يعجز عن الأداء بيقين ، وقدرته على الأداء بمجيء أشهر الحج من السنة الثانية موهوم فربما لا يعيش إليها وبالموهوم لا تثبت القدرة فبقي مضي هذا الوقت تفويتا له ، توضيحه أن وقت أداء أشهر الحج من عمره لا من جميع الدنيا ، وهذه السنة متعينة لذلك ; لأن عدم التعيين لاعتبار المعارضة ولا تتحقق المعارضة إلا أن يتيقن بحياته إلى السنة الثانية ولا طريق لأحد إلى معرفة ذلك ، ولهذا قلنا لو أخره كان مؤديا ; لأنه لما بقي إلى السنة الثانية تحققت المعارضة فخرجت السنة الأولى من أن تكون متعينة وكانت هذه السنة في حقه تعد لما أدركها بمنزلة السنة الأولى ، فأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم فقد منع ذلك بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - فقالوا نزول فريضة الحج بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } ، وإنما نزلت هذه الآية في سنة عشر ، فأما النازل سنة ست فقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } ، وهذا أمر بالإتمام لمن شرع فيه فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير إنما لا يحل لما فيه من التعريض للفوت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمن من ذلك ; لأنه مبعوث لبيان [ ص: 165 ] الأحكام للناس والحج من أركان الدين فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله ولأن تأخيره كان لعذر ، وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك وما كان التغيير ممكنا للعهد حتى إذا تمت المدة بعث عليا رضي الله تعالى عنه حتى قرأ عليهم سورة براءة ونادى أن لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ، ثم حج بنفسه ومن ذلك أنه كان لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحابه يكونون معه ، ولم يكن متمكنا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره أو كان للنسيء الذي كان يفعله أهل الجاهلية ، وقد بينا هذه الأعذار في الخلافيات

التالي السابق


الخدمات العلمية