الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة ، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به ، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة ، وهي الرجوع عن الذنب ، والإنابة إلى الله بالاستغفار منه ، وهي ثلاثة أركان :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : الندم على ما وقع منه من المعصية .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : النية ألا يعود إلى الذنب أبدا ، والأمر في قوله في هذه الآية : وتوبوا إلى الله جميعا الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك ، فالتوبة واجبة على كل مكلف ، من كل ذنب اقترفه ، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لعلكم تفلحون قد قدمنا مرارا أن أشهر معاني لعل في القرآن اثنان :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أنها على بابها من الترجي ، أي : توبوا إلى الله رجاء أن تفلحوا ، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد ، أما الله - جل وعلا - فهو عالم بكل شيء ، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء ، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] [ ص: 520 ] وهو - جل وعلا - عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى .

                                                                                                                                                                                                                                      معناه : فقولا له قولا لينا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرآن للتعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " ، وهي في قوله تعالى : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] ، قالوا : فهي بمعنى كأنكم ، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية ، ومنه قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق



                                                                                                                                                                                                                                      أي : كفوا الحروب ، لأجل أن نكف ; كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول ، فالمعنى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ، لأجل أن تفلحوا ، أي : تنالوا الفلاح ، والفلاح في اللغة العربية : يطلق على معنيين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : الفوز بالمطلوب الأعظم ، ومن هذا المعنى قول لبيد :

                                                                                                                                                                                                                                      فاعقلي إن كنت لما تعقلي     ولقد أفلح من كان عقل



                                                                                                                                                                                                                                      أي : فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل .

                                                                                                                                                                                                                                      المعنى الثاني : هو البقاء الدائم في النعيم والسرور ، ومنه قول الأضبط بن قريع ، وقيل : كعب بن زهير :

                                                                                                                                                                                                                                      لكل هم من الهموم سعه     والمسا والصبح لا فلاح معه



                                                                                                                                                                                                                                      يعني : أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه . وقول لبيد بن ربيعة أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                      لو أن حيا مدرك الفلاح     لناله ملاعب الرماح



                                                                                                                                                                                                                                      يعني : لو كان أحد يدرك البقاء ، ولا يموت لناله ملاعب الرماح ، وهو عمه عامر بن [ ص: 521 ] مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة ، وقد قال فيه الشاعر يمدحه ، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور :


                                                                                                                                                                                                                                      فررت وأسلمت ابن أمك عامرا     يلاعب أطراف الوشيج المزعزع



                                                                                                                                                                                                                                      وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإقامة :

                                                                                                                                                                                                                                      حي على الفلاح ; كما هو معروف . ومن تاب إلى الله - كما أمره الله - نال الفلاح بمعنييه ، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة ، ورضا الله تعالى ، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره - جل وعلا - لجميع المسلمين بالتوبة ، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله : لعلكم تفلحون أوضحه في غير هذا الموضع ، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب ، ويكفر بها السيئات ، أنها التوبة النصوح ، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات ، ودخول الجنة ، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم : إن عسى من الله واجبة ، وله وجه من النظر ; لأنه عز وجل جواد كريم ، رحيم غفور ، فإذا أطمع عبده في شيء من فضله ، فجوده وكرمه تعالى وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطمعه ربه في ذلك الفضل يثق بأنه ما أطمعه فيه إلا ليتفضل به عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الآيات التي بينت هذا المعنى هنا ، قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 66 \ 8 ] ، فقوله في آية " التحريم " هذه : ذلك بأن الذين كفروا ; كقوله في آية " النور " : أيها المؤمنون لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة ، فقد نال الفلاح بمعنييه ، وقوله في آية " التحريم " : توبوا إلى الله توبة نصوحا موضح لقوله في " النور " : وتوبوا إلى الله جميعا ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم ، وحث على امتثال الأمر ; لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح ، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية " التحريم " ، هو المفهوم من لفظة لعل في آية " النور " ، كما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية