الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وعلى هذا فقوله في قصة فرعون { لعله يتذكر أو يخشى } جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد .

                أحدها : أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن الله خالقه وليس هو إلها وربا كما ذكر وذكر إحسان الله إليه . فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية الله وتوحيده وإنعامه عليه . فيقتضي الإيمان والشكر وإن قدر أن الله لا يعذبه .

                فإن مجرد كون الشيء حقا ونافعا يقتضي طلبه وإن لم يخف ضررا [ ص: 180 ] بعدمه . كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها . كما يحب الإنسان علوما نافعة وإن لم يتضرر بتركها .

                وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالي الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة وإن لم يخف ضررا بتركها . فهو إذا تذكر آلاء الله وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق الله وتوحيده وإحسانه إليه ويقتضي شكره لله وتسليم قوم موسى إليه وإن لم يخف عذابا . فهذا قد حصل بمجرد التذكر .

                قال { أو يخشى } . ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده الله به من عذاب الدنيا والآخرة فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر .

                وقد يحصل تذكر بلا خشية وقد يحصل خشية بلا تذكر وقد يحصلان جميعا وهو الأغلب . قال تعالى : { لعله يتذكر أو يخشى } .

                وأيضا فذكر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا فيحصل بمجرد عقله وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد . فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها .

                [ ص: 181 ] وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا كما قال تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص } { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .

                الفائدة الثانية : أن التذكر سبب الخشية والخشية حاصلة عن التذكر . فذكر التذكر الذي هو السبب وذكر الخشية التي هي النتيجة وإن كان أحدهما مستلزما للآخر كما قال { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } وكما قال أهل النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } وقال : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر .

                فالذي يسمع ما جاءت به الرسل سمعا يعقل به ما قالوه ينجو . وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه كما قال : { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } وقال : { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون } وقال : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } .

                [ ص: 182 ] وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع . وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا : { بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } .

                وكذلك المعتبرين بآثار المعذبين الذين قال فيهم : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } . إنما ينتفعون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرسل والناجين الذين صدقوهم فسمعوا قول الرسل وصدقوهم .

                الفائدة الثالثة : أن الخشية أيضا سبب للتذكر كما تقدم . فكل منهما قد يكون سببا للآخر . فقد يخاف الإنسان فيتذكر وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله .

                فإن قيل : مجرد ظن الخوف قد يوجب الخوف فكيف قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ؟ .

                قيل : النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة . وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه . ولهذا قال : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } .

                [ ص: 183 ] وقال تعالى في ذم الكفار : { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون .

                ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة .

                وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق فقال : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } وقال : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وقال : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية