الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( من بعد وصية يوصي بها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية ، وههنا مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين ، قال : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين ، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين ، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق ، فأما إذا لم يكن دين ، أو كان إلا أنه قضي وفضل بعده شيء ، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ، ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنكم لتقرءون الوصية قبل الدين ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم ؛ لأن كلمة " أو " لا تفيد الترتيب البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الوصية مال يؤخذ [ ص: 176 ] بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة ، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين ، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه ، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في إخراجها ، ثم أكد في ذلك الترغيب بإدخال كلمة " أو " على الوصية والدين ، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له ، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين ، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى ، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث ، وليس كذلك الدين ، فإنه لو هلك من المال شيء استوفي الدين كله من الباقي ، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا ، فالوصية تشبه الإرث من وجه ، والدين من وجه آخر ، أما مشابهتها بالإرث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والإرث ، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما معنى " أو " ههنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصي بها ودين ، والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن " أو " معناها الإباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس ، فإن جالست الحسن فأنت مصيب ، أو ابن سيرين فأنت مصيب ، وإن جمعتهما فأنت مصيب ، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر ، فكذا ههنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، أما إذا ذكره بلفظ " أو " كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده ، وكذلك إن كان كلاهما .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن كلمة " أو " إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] وقوله : ( حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) [ الأنعام : 146 ] فكانت " أو " ههنا بمعنى الواو ، فكذا قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال : إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ( يوصى ) بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله . وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصي وهو الاختيار بدليل قوله تعالى : ( مما ترك إن كان له ولد ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية