الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الباب الثاني

                          ( في مكانة محمد رسول الله وخاتم النبيين عند ربه وفي هداية دينه وحقوقه على أمته )

                          وفيه ثلاثة فصول

                          ( الفصل الأول في اقتران اسمه باسم ربه وحقه - صلى الله عليه وسلم - بحقه عز وجل )

                          وفيه أربعة عشر شاهدا

                          ( 1 و 2 ) افتتحت هذه السورة بقوله تعالى : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) وعطف عليها قوله تعالى : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) ( 9 : 3 ) إلخ فقرن تعالى اسم نبيه باسمه في تبليغ أحكامه وتنفيذها .

                          ( 3 ) قال تعالى في وصف كملة المؤمنين من الآية ( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) ( 9 : 16 ) أي دخيلة وبطانة من غيرهم يطلعونهم على الأسرار ، ولهذا أشرك المؤمنين في هذا لأنه يتعلق بحقوقهم في ولاية بعضهم لبعض دون أعدائهم ، ويضرهم [ ص: 85 ] أن يكون بينهم ولائج ودخائل من غيرهم . دون ما قبله الذي هو تشريع ، هو حق الله تعالى ، وتبليغ وتنفيذ : هما حق رسوله - صلى الله عليه وسلم - في عهده ، وورثته من بعده .

                          ( 4 ) قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) ( 9 : 24 ) فجعل كمال الإيمان مشروطا بتفضيل حب الله تعالى ورسوله على كل ما يحب في هذا العالم من الناس والمصالح والمنافع ، ولكنه جعل الجهاد في سبيل الله لأنه عبادة يتقرب بها إلى الله وحده وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - أدنى حق ولا شركة مع الله عز وجل في عبادته .

                          ( 5 ) قوله تعالى في صفات أهل الكتاب الذين شرع قتالهم من الآية ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) ( 9 : 29 ) على القول بأن ( ( رسوله ) ) في الآية هو الفرد الأكمل خاتم النبيين وهو قول للمفسرين يقابله أن المراد به رسوله تعالى إليهم وهو موسى عليه السلام لليهود وعيسى عليه السلام للنصارى .

                          وهل العطف في الآية يدل على أن الرسول قد أعطاه الله حق التحريم من تلقاء نفسه أم حظه منه التبليغ عن الله تعالى نصا ولو في غير القرآن أو استنباطا ؟ اختلف علماؤنا في التشريع الدنيوي في هذه المسألة دون الديني المحض فذهب بعضهم إلى الأول وجعلوا منه تحريمه - صلى الله عليه وسلم - للمدينة كمكة أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها إلخ ، وذهب آخرون إلى الثاني ومنهم الإمام الشافعي ، وقد بينا هذه المسألة في موضع آخر بالتفصيل .

                          ( 6 ) قوله تعالى في سبب منع المنافقين أن تقبل منهم نفقاتهم من الآية ( أنهم كفروا بالله وبرسوله ) ( 9 : 54 ) ومثله في سبب عدم انتفاعهم باستغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآية ( ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ) ( 9 : 80 ) وهذا ظاهر فإن الدين إنما يكون بالجمع بين الإيمان بالله والإيمان برسوله وما جاء به ، وأنى يعرف الله وما يرضيه من عبادته إلا من طريق رسله وما أوحاه إليهم ؟

                          ( 7 ) قوله تعالى في الذين لمزوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي عابوه في قسمة الصدقات وكانوا يرضون إذا أعطوا ويسخطون إذا منعوا : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) ( 9 : 59 ) والجمع فيها بين اسم الله واسم رسوله في موضعين : أحدهما : الرضاء بما آتيا وأعطيا بالفعل والثاني الرجاء فيما يؤتيان من بعد ، فأما العطاء من الله تعالى فهو أنه هو الذي أنعم وينعم بالغنائم في الحرب وهو الذي شرع قسمتها بين الغانمين ، وجعل خمسها فيما تقدم في أول الجزء العاشر في مصالح المسلمين ، ومنها مواساة الفقراء والمساكين ، وهو المنعم بسائر الأموال ، والذي فرض [ ص: 86 ] فيها ما تقدم تفصيله من الصدقات ، وأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو القاسم للغنائم والصدقات بإعطائها لمستحقيها بالحق والعدل ، ولذلك خص الله تعالى في الآية بالفضل . وفيها من أصول التوحيد ، والتمييز بين ما لله وحده وما له وللرسول أمران : ( أحدهما ) أن المحسب الكافي للعباد هو الله وحده ، ولهذا أرشدهم أن يقولوا : ( حسبنا الله ) ولم يقل ورسوله كما قال في الإيتاء ، و ( ثانيهما ) أن توجه المؤمن فيما يرغبه ويرجوه من الرزق وغيره يجب أن ينتهي إلى الله تعالى وحده وهو نص قوله : ( إنا إلى الله راغبون ) ( 9 : 59 ) ومنه ( وإلى ربك فارغب ) ( 94 : 8 ) أي دون غيره ( راجع ص 241 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( 8 ) قوله تعالى ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) ( 9 : 62 ) فمقتضى الإيمان الذي لا يصح بدونه - تحري المؤمن إرضاء الله ورسوله في المرتبة الأولى وإرضاء المؤمنين بما يتعلق بمعاملاتهم في المرتبة الثانية التابعة الأولى ; ذلك بأن كل ما يرضي رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرضيه ، فهما متلازمان ، وأما المؤمنون فقد يرضي بعضهم ما لا يرضي الله ورسوله لجهله بما يرضيهما أو غفلته عنه أو اتباعه لهواه فيه . ومنه في موضوع الآية في أن بعض المؤمنين من الصحابة الكرام ربما كانوا يصدقون أولئك المنافقين الذين يحلفون لهم بأنهم صادقون في اعتذارهم عما اتهموا به في غزوة تبوك ; لأنهم لا يعلمون ما يعلمه الله تعالى من باطن أمرهم وما أعلم به رسوله منه ، ولذلك قال في آية أخرى : ( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ( 9 : 96 ) .

                          ( 9 ) قوله ( تعالى ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ) ( 9 : 63 ) الآية هذه مقابلة لما قبلها فإن من يحادد الله أي يعاديه يعادي رسوله كما أن من يرضي أحدهما يرضي الآخر ، ومن ثم كان الجزاء واحدا .

                          ( 10 ) قوله تعالى في المنافقين الذين كانوا يخوضون في مسألة غزوة تبوك ويهزءون بمحاولة غزو الروم ورجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - النصر عليهم وبما كان وعد به أصحابه من الظفر بملكهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ( 9 : 65 ) فحكم الاستهزاء بالله وآياته الكفر ، وهو حكم الاستهزاء برسوله ; لأن الله تعالى هو الذي وعد رسوله بالنصر وأمره بالغزو ، ورسوله إنما بلغ عنه آياته ووعده في ذلك .

                          ( 11 ) قوله تعالى : ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) ( 9 : 90 ) الآية . معنى كذبهم إياهما إظهار الإيمان بهما كذبا وخداعا ومن [ ص: 87 ] كذب الرسول في دعوى الإيمان فقد كذب الله - وإن لم يشعر بذلك - واستحق الجزاء الذي في الآية .

                          ( 12 ) قوله تعالى في أصحاب الأعذار الصادقة في التخلف عن الجهاد الواجب ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) ( 9 : 19 ) فاشترط لقبول عذرهم في القعود عن القتال النصح لله ورسوله في كل قول وعمل يقدرون عليهما في مقاومة الأعداء ومساعدة المؤمنين وغير ذلك ، فالنصح من أعظم شعب الإيمان ، وراجع تفسير الآية .

                          ( 13 ) قوله تعالى في المعتذرين من المنافقين عن الخروج إلى تبوك ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ) ( 9 : 94 ) الآية . والمراد من ذكر رؤية الرسول لها إعلامهم أنه هو الذي سيعاملهم بمقتضاها في الدنيا ، دون أقوالهم في الاعتذار عن تخلفهم وغيره من سيئاتهم . وأما رؤية الله تعالى لها فهي التي عليها مدار الجزاء في الآخرة كما صرح به في تتمة الآية ( بأول هذا الجزء ) وفي معناها قوله تعالى ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ( 9 : 105 ) هذه الآية حث على العمل النافع للدنيا والآخرة ، وإنما ذكر المؤمنون هنا بعد ذكر الله ورسوله لتذكير العاملين بأن الله يرى أعمالهم وهو الذي يجازيهم عليها ، فيجب عليهم الإحسان والإخلاص له ، والوقوف عند حدود شرعه فيها . وبأن رسوله يراها ويعاملهم بمقتضاها .

                          وهذا خاص بحال حياته - صلى الله عليه وسلم - - وهو الشهيد عليهم فيها عند الله تعالى ليتحروا أن يشهد لهم لا عليهم - ثم لتذكيرهم بأن المؤمنين يرونها فينبغي لهم أن يتبعوا فيها سبيلهم ويتحروا فيها ما يوافق المصلحة العامة التي يشتركون فيها ، وجماعة المؤمنين شهداء بعضهم على بعض ، وشهادتهم مقبولة عند الله تعالى ( راجع تفسير الآية في موضعها بأول هذا الجزء )

                          ( 14 ) قوله تعالى ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) ( 9 : 99 ) فهذا ضرب من اقتران اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - باسم الله تعالى في موضوع واحد مع الفصل فيه بين ما له تعالى وما لرسوله . فالذي لله عز وجل من هذه العبادة هو قصد القربة وابتغاء المرضاة والمثوبة ، والذي للرسول - صلى الله عليه وسلم - هو طلب صلواته أي أدعية إذ كان يدعو للمتصدقين كما بيناه في تفسير الآية ( في أول الجزء ) .

                          وكل هذه الآيات مما يفند دعوى بعض الملاحدة أن دين الإسلام هو القرآن وحده دون سنة رسوله ، وكذلك ما ترى في الفصلين اللذين بعده .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية