الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              78 [ ص: 398 ] 19 - باب: الخروج في طلب العلم

                                                                                                                                                                                                                              ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.

                                                                                                                                                                                                                              78 - حدثنا أبو القاسم خالد بن خلي قال: حدثنا محمد بن حرب قال: قال الأوزاعي: أخبرنا الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه؟ فقال أبي: نعم، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه يقول: " بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى. لا. فأوحى الله -عز وجل- إلى موسى: بلى، عبدنا خضر. فسأل السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه، فكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يتبع أثر الحوت في البحر. فقال فتى موسى لموسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال موسى: ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا [الكهف: 64]، فوجدا خضرا، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه". [انظر: 74 - مسلم 2380 - فتح: 1 \ 173]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا أبو القاسم خالد بن خلي قاضي حمص، ثنا محمد بن حرب، ثنا الأوزاعي : أخبرني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى .. الحديث، كما سلف قريبا سواء، وأراد به الرحلة في طلب العلم برا وبحرا، وترجم عليه فيما تقدم الذهاب في البحر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 399 ] وفيه من الأسماء مما لم يسبق: عبد الله بن أنيس، والأوزاعي، وخالد بن خلي.

                                                                                                                                                                                                                              فأما عبد الله بن أنيس (م، 4) فهو: جهني، أنصاري حليفهم، عقبي، روى عنه أولاده: عطية، وعمرو، وضمرة، وغيرهم، شهد أحدا وما بعدها، واختلف في شهوده بدرا، وهو الذي رحل إليه جابر فسمع منه حديث القصاص، وهو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن (نبيح) العنزي فقتله.

                                                                                                                                                                                                                              له خمسة وعشرون حديثا، روى له مسلم حديثا واحدا في ليلة القدر، وأخرج له أصحاب السنن الأربعة، ولم يذكره الكلاباذي وغيره فيمن روى له البخاري، وقد ذكر البخاري في كتاب: الرد على الجهمية فقال: ويذكر عن جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس فذكره. مات سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في أبي داود والترمذي عبد الله بن أنيس الأنصاري عنه ابنه عيسى، ولعله الأول، وفي الصحابة عبد الله بن أنيس، أو أنس، قيل: هو الذي رمى ماعزا لما رجموه فقتله، وعبد الله بن أنيس قتل يوم اليمامة، وعبد الله بن أنيس العامري له وفادة، وهو من رواية يعلى بن [ ص: 400 ] الأشدق، وعبد الله بن أبي أنيسة قال الوليد بن مسلم : حدثنا داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: سمعت حديثا في القصاص لم يبق أحد يحفظه إلا رجل بمصر يقال له: عبد الله بن أبي أنيسة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما الأوزاعي : فهو أحد الأعلام، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، وقيل: كان اسمه عبد العزيز، فسمى نفسه عبد الرحمن، أحد أتباع التابعين، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس، ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن مات، وقيل: إن الأوزاع قرية بقرب دمشق، سميت بذلك; لأنه سكنها في صدر الإسلام قبائل شتى، وقيل: الأوزاع: بطن من حمير، وقيل: من أوزاع. أي: فرق وبقايا مجتمعة من قبائل شتى، وقيل: كان ينزل الأوزاع فغلب ذلك عليه، وقال ابن سعد : الأوزاع بطن من همدان، والأوزاعي من أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                              روى عن عطاء ومكحول وغيرهما، ورأى ابن سيرين .

                                                                                                                                                                                                                              وعنه قتادة ويحيى بن أبي كثير، وهما من شيوخه وأمم، وكان رأسا في العلم والعبادة، وكان أهل الشام والمغرب على مذهبه قبل انتقالهم إلى مذهب مالك، وسئل عن الفقه -يعني: استفتي- وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل: إنه أفتى في ثمانين ألف مسألة، مات بالحمام سنة سبع وخمسين ومائة في آخر خلافة أبي جعفر، وولد سنة ثمان وثمانين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 401 ] وأما خالد بن خلي : فهو: أبو القاسم الحمصي الكلاعي، انفرد به البخاري (عن مسلم ) وهو قاضي حمص، صدوق، أخرج له هنا، وفي التعبير، روى عن بقية وطبقته، وعنه ابنه محمد، وأبو زرعة الدمشقي، وأخرج له من أهل السنن النسائي فقط.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث الذي رحل إليه جابر فهو في القصاص كما تقدم، وقد

                                                                                                                                                                                                                              ذكره البخاري في كتاب: الرد على الجهمية آخر الكتاب، فقال:

                                                                                                                                                                                                                              ويذكر عن جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -

                                                                                                                                                                                                                              يقول: "يحشر (الله) العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كلما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان" لم يزد البخاري على هذا، وقد ذكره كما ترى غير مجزوم به، وذكره هنا مجزوما به، فكأنه جزم بالرحلة دون الحديث (وألا) يشكل على ما تقرر من تعليقات البخاري كما سلف في الفصول أول الكتاب، وقد رواه عبد الله بن عقيل عن جابر، وفيه أنه سمعه من عبد الله بن أنيس بالشام ولفظه: "يحشر العباد -أو الناس- عراة غرلا بهما فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، [ ص: 402 ] لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى يقتصه منه حتى اللطمة" قال: وكيف وإنا إنما نأتي عراة غرلا؟ قال: "بالحسنات والسيئات".

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: "فيناديهم" يأمر ملكا ينادي، أو يخلق صوتا يسمعه الناس، وإلا فكلامه ليس بحرف ولا صوت. وفي رواية أبي ذر : "فينادى" على ما لم يسم فاعله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 403 ] (ومعنى: "غرلا" غير مختونين و"بهما": أصحاء).

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الطريق الذي سقناه أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده " وغيره. ورواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الرحلة" من (حديثه) عنه قال: قدمت على أنيس مصر، ورواه كذلك من طريق أبي جارود العبسي عن جابر وهي ضعيفة.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن يونس أيضا قدومه إلى مصر في حديث القصاص، لكن لعقبة بن عامر، فيحتمل تعدد الواقعة، ووقع في كتاب ابن بطال أن الحديث الذي رحل بسببه جابر إلى عبد الله بن أنيس هو حديث الستر على المسلم، وليس كذلك، فذاك رحل فيه أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر .

                                                                                                                                                                                                                              أخرجه الحاكم بإسناده، وأنه لما أتى إلى عقبة قال: ما جاء بك؟ قال: حديث لم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري وغيرك، في ستر المؤمن; فقال عقبة: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة " فقال أبو أيوب : صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 404 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              رحل جماعات إلى حديث واحد من أماكن شاسعة. قال عمرو بن أبي سلمة للأوزاعي : أنا ألزمك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثا. فقال: وتستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟! لقد سار جابر إلى مصر واشترى راحلة يركبها حتى سأل عقبة عن حديث واحد وانصرف، وهذا قد قدمناه.

                                                                                                                                                                                                                              وعن مالك أن رجلا خرج إلى مسلمة بن مخلد بمصر في حديث سمعه.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن بريدة، أن رجلا من الصحابة رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر في حديث سمعه. وعن سعيد بن المسيب : لقد كنت أسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.

                                                                                                                                                                                                                              ورحل عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى علي بن أبي طالب بالعراق لحديث واحد، وأبو عثمان النهدي من العراق إلى المدينة في حديث واحد عن أبي هريرة، وابن الديلمي رحل من فلسطين إلى عبد الله بن عمرو بالطائف لحديث واحد، وأبو معشر من الكوفة إلى البصرة لحديث واحد بلغه عن أبان بن أبي عياش، وشعبة من البصرة إلى مكة -شرفها الله تعالى- ولم يرد الحج لحديث واحد، وعلي بن المبارك من مرو إلى هارون بن المغيرة بالبصرة لحديث واحد، [ ص: 405 ] وزيد بن الحباب رحل من البصرة إلى المدينة في حديث واحد، ومن المدينة إلى موسى بن علي بمصر، وصالح بن محمد جزرة رحل إلى خراسان بسبب حديث عن الأعمش .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة أخرى:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر البخاري قريبا الرحلة في المسألة النازلة وذكر فيه حديث المرضعة

                                                                                                                                                                                                                              ومن الدليل على الرحلة أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" الحديث بطوله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" أخرجه الترمذي، وفيه: "رجال من قبل المشرق يتعلمون، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا" قال: وكان أبو سعيد إذا رآنا يقول: مرحبا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشعبي : لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما بقي من عمره، لم أر سفره يضيع.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل في قوله تعالى حكاية عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: أو أمضي حقبا [الكهف: 60] جمع حقب وهو ثمانون سنة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية