الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: فهذا أصل أصول القوم الذي بنوا عليه دينهم الصحيح والفاسد. فإن الإقرار بوجود الصانع تعالى، وأنه حي عالم قادر، ونبوة [ ص: 160 ] نبيه صلى الله عليه وسلم، حق لا ريب فيه وأما نفيهم صفات الرب تعالى، ودعواهم أنه لم يتكلم بكلام قائم به، ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ونحو ذلك، فهو من دينهم الفاسد.

وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل، إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة، فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري؛ ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة، وإبطاله أخرى، فإنه كان ذكيا كثير الكلام والتصنيف، فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله، كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم.

وابن الجوزي يقتدي به فيما يدخل فيه من الكلام، مثل كلامه في منهاج الأصول، وفي كف التشبيه ونحو ذلك.

ولهذا يوجد في كلام هؤلاء من نفي الصفات الخبرية، ومنعهم أن تسمى الآيات والأحاديث آيات الصفات وأحاديث الصفات، بل آيات الإضافات، ونصوص الإضافات، ونحو ذلك من الكلام الموافق لأقوال المعتزلة، ما يبين به أن الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين للصفات الخبرية ونحو ذلك، أقرب إلى السنة والسلف والأئمة، كأحمد بن حنبل وغيره، من كلام هؤلاء الذين مالوا في هذا إلى طريقة المعتزلة.

وهذه الطريقة التي سلكها أبو الحسين في إثبات أن المحدث لا بد له من محدث، هي طريقة أبي المعالي وابن عقيل في كثير من كلامهم، وغيرهم. [ ص: 161 ]

والقاضي أبو بكر يذكر ما يشبهها في الأصلين من استدلاله على افتقار المحدث إلى محدث بالتخصيص، والاستدلال على ذلك بالقياس.

والأشعري أحسن استدلالا منه، مع أنهم كلهم سلكوا سبيل المعتزلة في هذا الأصل، وسلموا كلامهم. وهي طريقة أثبتوا فيها الجلي بالخفي وأرادوا بها إيضاح الواضح، كمن يقرر القضايا البديهية بقضايا نظرية، يسندها إلى قضايا أخرى بديهية، وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث، أبين في العقل من العلم بأن ما جاز حدوثه، لم يكن بالحدوث أولى من ألا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، وبأن ما وجب حدوثه وجب في كل حال.

فإن هذه القضايا وإن كانت حقا، وهي ضرورية، فالعلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين منها، والعقل يضطر إلى التصديق بهذه أعظم مما يضطر إلى التصديق بتلك، وتصور طرفي هذه القضية أبده في العقل من تصور تلك، ولا تعرض هذه القضية وتلك على سليم الفطرة إلا صدق بهذه قبل تلك.

وهذا كقول أبي المعالي، ومن وافقه على طريقه، إذ أثبت حدوث العالم: (فالحادث جائز وجوده، وكل وقت صادفه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات، ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته بساعات. فإذا وقع الوجود الجائز بدلا عن استمرار العدم المجوز، قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع، وذلك -أرشدك [ ص: 162 ] الله- مستبين على الضرورة، لا حاجة فيه إلى سبر الغير والتمسك فيه بسبيل النظر.

التالي السابق


الخدمات العلمية