الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الفصل الثاني في أحكام القتال والمعاهدات وهي عشرون حكما )

                          ( الحكم الأول ) البراءة من المشركين ، ونبذ عهود المعاهدين منهم ، ذلك أن مشركي مكة قد ناصبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - العداوة منذ دعا إلى التوحيد ، وتبعهم سائر العرب فكانوا حربا له ولمن آمن به يقتلون كل من ظفروا به منهم أو يعذبونه إذا لم يكن له من يحميه من المشركين ، ولما هاجروا من مكة صاروا يقاتلونهم في دار هجرتهم وكان الله ينصر رسوله والمؤمنين عليهم كما وعده ، حتى إذا ما كثروا وصارت لهم شوكة اضطر المشركون إلى عقد أول صلح معهم في الحديبية فعاهدوهم سنة ست للهجرة على السلم والأمان مدة عشر سنين ، ولم تلبث قريش مع أحلافها من بني بكر أن غدروا ونقضوا العهد ، فكان ذلك سببا لفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة سنة ثمان ، ثم جمع المشركون جموعهم لقتاله في حنين والطائف فنصره الله عليهم ، وأمره في السنة التالية بأن ينبذ للمشركين عهودهم ويتبرأ منهم في موسم الحج ( 137 ج 10 ط الهيئة ) .

                          [ ص: 101 ] ( الثاني ) أذان المشركين ( إعلامهم ) بذلك أذانا عاما في يوم الحج الأكبر ، وهو عيد النحر الذي تجتمع به وفود الحاج من جميع القبائل في منى بحيث يعم هذا البلاغ جميع قبائل العرب في أقرب وقت ، لأن الإسلام يحرم الغدر وأخذ المعاهدين على غرة ، فكان لا بد من إعلامهم بذلك بما ينتشر في جميع قبائلهم ، وكانت تلك الوسيلة الوحيدة لعلم كل فرد منهم بعود حالة الحرب بينهم وبين المسلمين ، وهذا من عدل الإسلام ورحمته ، لأن المشركين لم تكن لهم دولة ولا رئيس عام يبلغهم ما يتعلق بشئونهم ومصالحهم العامة فيكتفى بإبلاغه مثل هذا كما هو المعهود في الدول الملكية أو الجمهورية المدنية ، ولم يكن في عصرهم صحف منشرة عامة ولا آلات للأخبار البرقية تنشر مثل هذا البلاغ .

                          ( الثالث ) منحهم هدنة أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاءوا آمنين مطمئنين أحرارا في سيرهم وإقامتهم وسائر أعمالهم الدينية والدنيوية ليترووا في أمرهم ، ويتشاوروا في عاقبتهم . وفي هذا من رحمة القادر بعدوه ما يفتخر به المسلمون بحق . وهذه الأحكام صريحة في الآيات الثلاث الأولى من السورة ( ص 133 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( الرابع ) وعظهم بأنهم إن تابوا من شركهم وما يغريهم به من عداوة المؤمنين وقتالهم والغدر بهم فهو خير لهم ، لأنهم لم يعجزوا الله في الأرض ولن يعجزوه هربا منها ، وقد وعد بنصر رسوله عليهم من قبل أن يكثر أتباعه ويبايعه أنصاره ، وأنجز له وعده في جملة غزواته معهم ، وسبب هذا الوعظ أن الإيمان أمر اختياري طريقه الموصل إليه الدعوة ودلائل الإقناع ، وذلك قوله في بقية الآية الثالثة ( فإن تبتم فهو خير لكم ) إلخ . وفيها من الإخبار عن المستقبل ما صدقه الواقع .

                          ( الخامس ) استثناء بعض المشركين من نبذ عهدهم ، وهم الذين عاهدهم المؤمنون عند المسجد الحرام في الحديبية سنة ست ولم ينقصوهم من شروط العهد ومواده شيئا ، ولم يظاهروا ويعاونوا عليهم أحدا من أعدائهم المشركين ولا أهل الكتاب ، كما نقض أهل مكة العهد ، بمظاهرة أحلافهم بني بكر على أحلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بني خزاعة . والأمر بإتمام عهدهم إلى نهاية مدته ، وتعليله بأنه من التقوى التي يحبها الله تعالى ، وهذا نص الآية الرابعة بشرط أن يظلوا مستقيمين عليه كما بينه في الآية السابعة .

                          ( السادس ) الأمر في الآية الثامنة باستعمال جميع أسباب القتال معهم بعد انسلاخ أشهر الهدنة التي ضربت له وحرم فيها ، وهي القتل والأسر والحصر والقعود لهم في جميع المراصد لمراقبتهم ومنعهم من التجوال والتغلب في البلاد ، وهو يدل على شرعية استعمال ما يتجدد بين البشر من وسائل القتال الموافقة لأصول الإسلام العادلة ، فإن استعمل العدو [ ص: 102 ] ما هو مخالف لها قابلناه لعموم قوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ) ( 2 : 194 ) .

                          ( السابع ) تخلية سبيل من يتوبون من الشرك بالنطق بالشهادتين ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، لأنهم بهذا يدخلون في الإسلام ، ومن قبل الصلاة والزكاة والتزمهما فلا بد أن يلتزم غيرهما . وهذا نص الآية الخامسة .

                          ( الثامن ) إيجاب إجارة من يستجير النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ، وفي حكمه الإمام الأعظم ونائبه والقائد العام في حال الحرب ؛ لأجل أن يسمع كلام الله ويقف على دعوة الإسلام ، وإبلاغه بعد ذلك المكان الذي يأمن فيه على نفسه من سلطان المسلمين .

                          ( التاسع ) تعليل نبذ عهد المشركين السابق وعدم استئنافه معهم بالأسباب الآتية :

                          ( أ ) أنهم نقضوا عهد الحديبية بالغدر فلم يخبروا المؤمنين ذلك ليأخذوا أهبتهم .

                          ( ب ) أن من دأبهم وشأنهم أنهم إذا ظهروا على المؤمنين برجحان قوتهم لا يرقبون فيهم عهدا ولا ذمة ولا قرابة ، بل يفتكون بهم بدون رحمة .

                          ( ج ) أنهم ينافقون ويكذبون عليهم في حال الضعف فيرضونهم بأفواههم ، ويقولون بألسنتهم لهم ما ليس في قلوبهم ، وأكثرهم أي السواد الأعظم منهم فاسقون أي خارجون عن قيود العهود والمواثيق والصدق والوفاء .

                          ( د ) أنهم يصدون عن سبيل الله ويعادون الإسلام وأهله لأجل منفعة قليلة يتمتعون بها ، ويخافون أن تسلب منهم بالتزام شريعته التي تحرم أكل أموال الناس بالباطل كالربا والقمار والغصب والغزو لأجل الكسب ، وكانوا يستبيحون كل ذلك .

                          ( هـ ) أنهم - على كونهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة في حال القوة ولا في حال الضعف - هم المعتدون على المسلمين بالقتال ، فلا يمكن أن يظلوا معهم كذلك في كل حال .

                          ( و ) أنهم نكثوا عهودهم السابقة ، فكذلك غيرها فلا ثقة بها فتراعى .

                          ( ز ) أنهم هموا بإخراج الرسول من وطنه ، بل هم الذين اضطروه إلى الخروج هو وسائر من آمن معه ، وذلك بعد أن تواطئوا على قتله .

                          ( ح ) أنهم هم الذين بدءوا المؤمنين بالقتال أول مرة ، وبقيت الحرب مستمرة ، فلما أنهت معاهدة الحديبية حالة القتال أعادوها بغدرهم فيها ونقضهم لها ، وهذه الأسباب الثمانية صريحة في الآيات ( 7 - 10 ) .

                          [ ص: 103 ] ( الحكم العاشر ) وجوب قتال مشركي العرب كافة إلا أن يسلموا ، وهو نص الآية الخامسة المعروفة بآية السيف ، وقوله في الآية : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ( 9 : 36 ) وجهه ما علم من جملة الآيات في قتال مشركي العرب ، وهو عدم قبول الجزية منهم وعدم إقرارهم على السكنى والمجاورة للمسلمين في بلادهم مع بقائهم على شركهم ، لأنهم لا أمان لهم ولا عهود فيمكن أن يعيش المؤمنون معهم بسلام .

                          ( الحكم 11 ) تحريم ولاية الكفار من الآباء والإخوان كغيرهم على المؤمنين ، وكونها من الظلم في الآية ( 23 ) .

                          ( الحكم 12 ) حكم قتال أهل الكتاب بشرطه حتى يعطوا الجزية في الآية ( 29 ) .

                          ومن فروع هذه المسألة الفرق في القتال بين مشركي العرب وسائر الوثنيين . ومنها أن ما في هذه السورة من قتالهم وقتال أهل الكتاب إنما هو في بيان غايته لا في بدايته ، وأن أول ما نزل من التشريع في القتال آيات سورة الحج ( 22 : 39 - 41 ) ثم آيات سورة البقرة التي أولها ( 2 : 190 ) ( راجع آخر ص 247 وما بعدها وص 255 ج 10 ) ويليها آيات سورة الأنفال ، فسورة آل عمران ، فسورة محمد ، فهذه السورة .

                          ( الحكم 13 ) وصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم هنا بأربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام ، ووجوب خضوعهم لحكمه ليأمن أهله على أنفسهم ، وحرية دينهم معهم ( فيراجع تفسير آية الجزية في ص 248 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( فصل ) في حقيقة الجزية لغة وشرعا وتاريخها وشروطها وأحكامها وسيرة الصحابة فيها ( ص 256 - 269 ) ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( استطراد ) في حقيقة معنى الجهاد والحرب والغزو وإصلاح الإسلام فيه ص 269 - 274 ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( فصل ) في دار الإسلام والعدل . ودار الحرب والبغي ، وحقوق الأديان والأقوام في هذا العصر ( ص 274 - 281 ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( الحكم 14 ) إبطال النسيء في الأشهر لأجل القتال ، وكونه تشريعا جاهليا ، وهو نص الآية ( 37 ) .

                          ( الحكم 15 ) النفير العام ، وهو ما يكون القتال به واجبا بشرطه على الأعيان كما فصل في الآيات ( 38 و 39 و 41 ) وأما النفير الخاص فهو في الآية ( 122 ) .

                          ( الحكم 16 ) الاستئذان في التخلف عن الجهاد بالمال والنفس من علامات النفاق ، [ ص: 104 ] ومنافيات الإيمان بالله واليوم الآخر كما ترى في الآيتين ( 44 و 45 ) وما قبلهما وبعدهما من أحوال المنافقين ، وتتمة ذلك في الآيات ( 86 - 93 ) .

                          ( الحكم الأول ) وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين في المعاملات المدنية والأدبية وهم الخاضعون لأحكام الإسلام كما في الآية ( 73 ) .

                          ( الحكم 18 ) الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد في قوله تعالى : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) 9 : 91 إلى آخر الآية ( 93 ) .

                          ( الحكم 19 ) وجوب بذل الأنفس والأموال في القتال المشروع لإعلاء كلمة الله ، وهي الحق والعدل باشتراء الله إياهما من المؤمنين بأن لهم الجنة ، وهو نص الآية ( 111 ) وتقدم تحريم الفرار من الزحف في سورة الأنفال .

                          ( الحكم 20 ) قتال الأقرب فالأقرب من الكفار الحربيين وهو نص الآية ( 123 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية