الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 16 - 17 ] باب العبد يعتق بعضه

                                                                                                        ( وإذا أعتق المولى بعض عبده عتق ذلك القدر ، ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يعتق كله ) وأصله أن الإعتاق يتجزأ عنده ، فيقتصر على ما أعتق وعندهما لا يتجزأ ، وهو قول الشافعي رحمه الله فإضافته إلى البعض كإضافته إلى الكل ، فلهذا يعتق كله ; لهم أن الإعتاق إثبات العتق وهو قوة حكمية ، وإثباتها بإزالة ضدها ، وهو الرق الذي هو ضعف حكمي ، وهما لا يتجزآن فصار كالطلاق والعفو عن القصاص والاستيلاد ، ولأبي حنيفة رحمه الله : أن الإعتاق إثبات العتق بإزالة الملك أو هو إزالة الملك ، لأن الملك حقه والرق حق الشرع أو حق العامة ، وحكم المتصرف ما يدخل تحت ولاية المتصرف ، وهو إزالة حقه لا حق غيره .

                                                                                                        والأصل أن التصرف يقتصر على موضع الإضافة والتعدي إلى ما وراءه ضرورة عدم التجزؤ والملك متجزئ كما في البيع والهبة ، فيبقى على الأصل وتجب السعاية لاحتباس مالية البعض عند العبد ، والمستسعى بمنزلة المكاتب عنده [ ص: 18 ] لأن الإضافة إلى البعض توجب ثبوت المالكية في كله وبقاء الملك في بعضه يمنعه فعملنا بالدليلين بإنزاله مكاتبا إذ هو مالك يدا لا رقبة ، والسعاية كبدل الكتابة ، فله أن يستسعيه ، وله خيار أن يعتقه لأن المكاتب قابل للإعتاق غير أنه إذا عجز لا يرد إلى الرق ; لأنه إسقاط لا إلى أحد فلا يقبل الفسخ بخلاف الكتابة المقصودة ; لأنه عقد يقال ويفسخ ، وليس في الطلاق والعفو عن القصاص حالة متوسطة فأثبتناه في الكل ترجيحا للمحرم ، والاستيلاء متجزئ عنده ، حتى لو استولد نصيبه من مدبره يقتصر عليه ، وفي القنة لما يضمن نصيب صاحبه بالإفساد ملكه بالضمان فكمل الاستيلاد .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        باب العبد يعتق بعضه .

                                                                                                        الحديث السادس : { قال عليه السلام : في الرجل يعتق نصيبه إن كان غنيا ، وإن [ ص: 18 ] كان فقيرا سعى العبد في حصة الآخر }; قلت : أخرجه الأئمة الستة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق شقصا له في عبد ، فخلاصه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه ، }انتهى .

                                                                                                        أخرجه البخاري في " العتق وفي الشركة " ، [ ص: 19 ] ومسلم في " العتق وفي النذور " ، وأبو داود في " العتق " ، والترمذي ، وابن ماجه في " الأحكام " ، والنسائي في " سننه الكبرى في العتق " ، وألفاظهم فيه متقاربة وفي لفظ في " الصحيحين " ، ويستسعى في نصيب الذي لم يعتق ، غير مشقوق عليه انتهى .

                                                                                                        قال أبو داود : ورواه روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة ، ولم يذكر السعاية ، ورواه جرير بن حازم ، وموسى بن خلف عن قتادة فذكرا فيه السعاية انتهى .

                                                                                                        وقال الترمذي : روى شعبة عن قتادة هذا الحديث ، ولم يذكر فيه أمر السعاية انتهى .

                                                                                                        وقال النسائي : أثبت أصحاب قتادة شعبة ، وهشام الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة ; وقد اتفق شعبة ، وهشام على خلاف سعيد بن أبي عروبة ، وروايتهما أولى بالصواب عندنا .

                                                                                                        وقد بلغني أن هماما روى هذا الحديث عن قتادة ، فجعل الكلام الأخير : وإن لم يكن له مال استسعى العبد ، غير مشقوق عليه قول قتادة انتهى .

                                                                                                        وقال عبد الرحمن بن مهدي : أحاديث همام عن قتادة أصح من حديث غيره ، لأنه كتبها إملاء ; وقال [ ص: 20 ] الدارقطني : روى هذا الحديث شعبة ، وهشام عن قتادة ، وهما أثبت ، فلم يذكرا فيه الاستسعاء ، ووافقهما همام ، وفصل الاستسعاء من الحديث ، فجعله من رأي قتادة ، قال : وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول : ما أحسن ما رواه همام وضبطه ، فصل قول النبي صلى الله عليه وسلم من قول قتادة ; ورواه ابن أبي عروبة ، وجرير بن حازم عن قتادة ، فجعلا الاستسعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأحسبهما وهما فيه لمخالفة شعبة ، وهشام ، وهمام إياهما انتهى .

                                                                                                        وقال الخطابي : اضطرب سعيد بن أبي عروبة في " السعاية " ، فمرة يذكرها ، ومرة لا [ ص: 21 ] يذكرها ، فدل على أنها ليست من متن الحديث عنده ، وإنما هو من كلام قتادة وتفسيره على ما ذكره همام وبينه ، ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر ، رواه الأئمة الستة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق شركا له في عبد ، فكان له مال يبلغ ثمن العبد ، قوم عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق }انتهى .

                                                                                                        قلت : في لفظ للبخاري : قال أيوب : لا أدري من قول نافع ، أو في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله : فقد عتق منه ما عتق ; وفي لفظ : قال : { من أعتق شركا له في مملوك ، وجب عليه أن يعتق كله ، إن كان له مال قدر ثمنه ، ويعطي شركاءه حصصهم ، ويخلي سبيل المعتق ، }انتهى .

                                                                                                        ذكره في " الشركة " ، وقال البيهقي : فقد اجتمع هاهنا شعبة مع فضل حفظه وعمله ، بما سمع قتادة ، وما لم يسمع وهشام مع فضل حفظه ، وهمام مع صحة كتابته ، وزيادة معرفته بما ليس من الحديث على [ ص: 22 ] خلاف ابن أبي عروبة ، ومن تابعه من إدراج السعاية في الحديث ، وفي هذا ما يضعف ثبوت الاستسعاء بالحديث ; وذكر أبو بكر الخطيب أن أبا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقري رواه عن همام ، وزاد فيه ذكر الاستسعاء ، وجعله من قول قتادة ، وميزه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم انتهى .

                                                                                                        وقال البيهقي في " المعرفة " : وقد حمل بعض أهل العلم السعاية المذكورة في الحديث على استسعاء العبد عند إعسار الشريك باختيار العبد دون إجباره عليه ، بدليل قوله : غير مشقوق عليه ، وفي إجباره على السعي في قيمته ، وهو لا يريده مشقة عظيمة انتهى .

                                                                                                        وقال صاحب " التنقيح " : وقد تكلم جماعة من الأئمة في حديث سعيد هذا ، وضعفوا ذكر الاستسعاء ، وقالوا : الصواب أن ذكر الاستسعاء من رأي قتادة ، كما رواه همام عنه ، فجعله من قوله ، وفي قول هؤلاء الأئمة نظر ، فإن سعيد بن أبي عروبة من الأثبات في قتادة ، وليس هو بدون همام ، وقد تابعه جماعة على ذكر الاستسعاء ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم جرير بن أبي حازم ، وأبان بن يزيد العطار ، [ ص: 23 ] وحجاج بن حجاج ، وموسى بن خلف ، وحجاج بن أرطاة ، ويحيى بن صبيح الخراساني انتهى .

                                                                                                        أحاديث الباب :

                                                                                                        روى الطبراني في " كتاب مسند الشاميين " حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثني أبي عن أبيه .

                                                                                                        قال : زعم أبو معبد حفص بن غيلان عن سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق شركا ، وله وفاء ، فهو حر ، وضمن نصيب شركائه بقيمة [ ص: 24 ] عدل ، فإن لم يكن له شيء استسعى العبد }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        أخرجه ابن عدي في " الكامل " عن داود بن الزبرقان عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق شقصا له من رقيق فإن عليه أن يعتق بقيته ، فإن لم يكن له مال استسعى العبد }انتهى .

                                                                                                        وأعله بداود بن الزبرقان ، وضعفه عن ابن معين ، والنسائي ، ثم قال : وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية