الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الأولياء والأكفاء [ ص: 256 ] ( وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها ) وإن لم يعقد عليها ولي بكرا كانت أو ثيبا ( عند أبي حنيفة وأبي يوسف ) رحمهما الله ( في ظاهر الرواية . وعن أبي يوسف ) رحمه الله ( أنه لا ينعقد إلا بولي . وعند محمد ينعقد وقوفا ) وقال مالك والشافعي رحمهما الله لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا لأن النكاح يراد لمقاصده والتفويض إليهن مخل بها ، إلا أن محمدا رحمه الله يقول : يرتفع الخلل بإجازة الولي . [ ص: 257 ] ووجه الجواز أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج ، [ ص: 258 ] وإنما يطالب الولي بالتزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة ، ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء . [ ص: 259 ] وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه لا يجوز في غير الكفء [ ص: 260 ] لأن كم من واقع لا يرفع . ويروى رجوع محمد إلى قولهما

التالي السابق


( باب الأولياء والأكفاء )

أولى الشرائط المتفق عليها غالبا الشرط المختلف فيه وهو عقد الولي . والولي العاقل البالغ الوارث ، فخرج الصبي والمعتوه والعبد والكافر على المسلمة .

الولاية في النكاح نوعان : ولاية ندب واستحباب وهو الولاية على البالغة العاقلة بكرا كانت أو ثيبا ، وولاية إجبار وهو الولاية على الصغيرة بكرا كانت أو ثيبا ، وكذا الكبيرة المعتوهة والمرقوقة . وتثبت الولاية بأسباب أربعة : بالقرابة ، والملك ، والولاء ، والإمامة . وافتتح الباب بالولاية المندوبة نفيا لوجوبها ; لأنه أمر مهم لاشتهار الوجوب في بعض الديار وكثرة الروايات عن الأصحاب فيه واختلافها .

وحاصل ما عن علمائنا رحمهم الله في ذلك سبع روايات : روايتان : عن أبي حنيفة تجوز مباشرة البالغة العاقلة عقد نكاحها ونكاح غيرها مطلقا إلا أنه خلاف المستحب وهو ظاهر المذهب ، ورواية الحسن عنه إن عقدت مع كفء جاز ومع غيره لا يصح ، واختيرت للفتوى لما ذكر أن كم من واقع لا يرفع وليس كل ولي يحسن المرافعة والخصومة ولا كل قاض يعدل ، ولو أحسن الولي وعدل القاضي فقد يترك أنفة للتردد على أبواب الحكام واستثقالا لنفس الخصومات فيتقرر الضرر فكان منعه دفعا له . وينبغي أن يقيد عدم الصحة المفتى به بما إذا كان لها أولياء أحياء ; لأن عدم الصحة إنما كان على ما وجه به هذه الرواية دفعا لضررهم فإنه قد يتقرر لما ذكرنا ، أما ما يرجع إلى حقها فقد سقط برضاها بغير الكفء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل الكفاءة

[ ص: 256 ] وعن أبي يوسف ثلاث روايات : لا يجوز مطلقا إذا كان لها ولي ثم رجع إلى الجواز من الكفء لا من غيره ، ثم رجع إلى الجواز مطلقا من الكفء وغيره . وروايتان عن محمد : انعقاده موقوفا على إجازة الولي إن أجازه نفذ وإلا بطل ، إلا أنه إذا كان كفئا وامتنع الولي يجدد القاضي العقد ولا يلتفت إليه . ورواية رجوعه إلى ظاهر الرواية . فتحصل أن الثابت الآن هو اتفاق الثلاثة على الجواز مطلقا من الكفء وغيره ، هذا على الوجه الذي ذكرناه عن أبي يوسف من ترتيب الروايات عنه وهو ما ذكره السرخسي ، وأما على ما ذكره الطحاوي من أن قوله المرجوع إليه عدم الجواز إلا بولي ، وكذا الكرخي في مختصره حيث قال : وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بولي وهو قوله الأخير فلا ، ورجح قول الشيخين ; لأنهما أقدم وأعرف بمذاهب أصحابنا ، لكن ظاهر الهداية اعتبار ما نقله السرخسي والتعويل عليه حيث قال عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف إلخ . وعلى المختار للفتوى لو زوجت المطلقة ثلاثا نفسها بغير كفء ودخل بها لا تحل للأول ، قالوا : ينبغي أن تحفظ هذه المسألة فإن المحلل في الغالب يكون غير كفء . وأما لو باشر الولي عقد المحلل فإنها تحل للأول ، وإذا جاز من غير الكفء على ظاهر المذهب فللولي أن يفرق بينهما على ما نذكره في فصل الكفاءة إن شاء الله تعالى . وقال الشافعي رحمه الله : لا ينعقد بعبارة النساء أصلا أصيلة كانت أو وكيلة .

( قوله لأن النكاح ) شروع في الاستدلال لقول الشافعي ومالك ، وهو أن النكاح لا يراد لذاته بل لمقاصده من السكن والاستقرار لتحصيل النسل [ ص: 257 ] وتربيته ولا يتحقق ذلك مع كل زوج ، والتفويض إليهن مخل بهذه المقاصد ; لأنهن سريعات الاغترار سيئات الاختيار فيخترن من لا يصلح خصوصا عند غلبة الشهوة وهو غالب أحوالهن ، فصارت الأنوثة مظنة قصور الرأي لما غلب على طبعهن مما ذكرنا ، فاستلزم هذا التقرير كون علة ثبوت الولاية في النكاح الأنوثة ، ولا شك أنه قاصر عن عموم الدعوى فإنها لو عقدت بإذن الولي لها في رجل معين كقول محمد لا يصح عندهم ، والوجه المذكور لا يشمله ، ونحن نمنع علية الأنوثة ، ونهيها عن المباشرة ندب كي لا تنسب إلى الوقاحة ، بل العلة ليست إلا [ ص: 258 ] الصغر على ما سنبين ، والمفسدة المذكورة ليست لازمة لمباشرتها ولا غالبة ، ولا يناط الحكم بالأنوثة إذ ليست ملزومة دائما ولا غالبا كما هو شأن المظنة ، ومجرد الوقوع أحيانا لا يوجب المظنة ، وإذا وجد فللولي رفعه ، وكون ولي يحتشم عن ذلك قليل بالنسبة إلى من يقوم في دفع العار المستمر عن نفسه ، فوقوع المفسدة قليل وتقريرها بعد وقوعها قليل في قليل فانتفت المظنة ، وبقي أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة بالغة ، ولهذا كان لها اختيار الأزواج فلا تزوج ممن لا ترضاه .

ثم استشعر أن يورد عليه منع أنه خالص حقها وإلا لم يطالب الولي به . فأجاب بأنه إنما يطالب الولي به كي لا تنسب إلى الوقاحة . وهذا كلام على السند وهو غير مفيد إلا لو ساوى وهو منتف ، فإن له أدلة أخرى سمعية هي المعول عليها وهي قوله تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } نهى الأولياء عن منعهن من نكاح من يخترنه ، وإنما يتحقق المنع ممن في يده الممنوع وهو الإنكاح ، وما في السنن عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال { أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل } حسنه الترمذي . وقوله صلى الله عليه وسلم { لا نكاح إلا بولي } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحاديث أخر في ذلك . والجواب أما الآية فمعناها الحقيقي النهي عن منعهن عن مباشرة النكاح هذا هو حقيقة لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن إذا أريد بالنكاح العقد .

هذا بعد تسليم كون الخطاب للأولياء وإلا فقد قيل للأزواج فإن الخطاب معهم في أول الآية { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } أي لا تمنعوهن حسا حبسا بعد انقضاء العدة أن يتزوجن ، ويوافقها قوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } ; لأنه حقيقة [ ص: 259 ] إسناد الفعل إلى الفاعل . وأما الحديث المذكور وما بمعناه من الأحاديث فمعارضة بقوله صلى الله عليه وسلم { الأيم أحق بنفسها من وليها } رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطإ . والأيم : من لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا . في كتاب الأمثال لأبي عبيدة في أمثال أكثم بن صيفي : كل ذات بعل ستئيم . يضرب لتحول الزمن بأهله ، وأنشد قول الأول


: أفاطم إني هالك فتثبتي ولا تجزعي كل النساء تئيم



وجه الاستدلال أنه أثبت لكل منها ومن الولي حقا في ضمن قوله أحق ، ومعلوم أنه ليس للولي سوى مباشرة العقد إذا رضيت وقد جعلها أحق منه به ، فبعد هذا إما أن يجري بين هذا الحديث ، وما رووا حكم المعارضة والترجيح أو طريقة الجمع ، فعلى الأول يترجح هذا بقوة السند وعدم الاختلاف في صحته ، بخلاف الحديثين فإنهما : إما ضعيفان : فحديث { لا نكاح إلا بولي } مضطرب في إسناده في وصله وانقطاعه وإرساله . قال الترمذي : هذا حديث فيه اختلاف ، وسمى جماعة منهم إسرائيل وشريك ، رووه عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه أسباط بن محمد وزيد بن حبان عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى . ورواه أبو عبيدة الحداد عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة ولم يذكر فيه عن أبي إسحاق فقد اضطرب في وصله وانقطاعه . وقد روى شعبة وسفيان الثوري عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا اضطراب في إرساله ; لأن أبا بردة لم يره النبي صلى الله عليه وسلم وشعبة وسفيان أضبط من كل من تقدم . قال : وأسنده بعض أصحاب سفيان عن سفيان ولا يصح ثم أسند إلى شعبة قال : سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا نكاح إلا بولي } قال نعم . ولا يخفى أن هذا الكلام إلزامي ، أما على رأينا فلا يضر الإرسال وحديث عائشة رضي الله عنها عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وقد أنكره الزهري . قال الطحاوي : وذكر ابن جريج أنه سأل عنه ابن شهاب فلم يعرفه ، حدثنا بذلك ابن أبي عمران : حدثنا يحيى بن معين عن ابن علية عن ابن جريج بذلك .

وإما حسنان بناء على أن الأصح في الأول وصله ; لأن الوصل والرفع مقدمان على الوقف والإرسال عند التعارض على الأصح وإن كان شعبة وسفيان أحفظ من غيرهما ، لكن حكاية شعبة تفيد أنهم سمعاه من أبي إسحاق في مجلس واحد ظاهرا وغيرهما سمعوه منه في مجالس . وفي الثاني أن الثقة قد ينسى الحديث ولا يعد قادحا في صحته بعد عدالة من روى عنه وثقته . ولذلك نظائر أشهرها ما روي أن ربيعة ذكر لسهيل بن أبي صالح [ ص: 260 ] حديثا فأنكره ، فقال له ربيعة : أنت حدثتني به عن أبيك فكان سهيل يقول بعد ذلك حدثني ربيعة عني ، اللهم إلا أن يقال هذا في عدم التكذيب ، أما إذا كذبه بأن يقول ما رويت ذلك فنصوا في الأصول على رده .

وفي حكاية ابن جريج إيماء إلى ذلك في رواية ابن عدي في الكامل إياها في ترجمة سليمان بن موسى حيث قال : قال ابن جريج : فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه ، فقلت له : إن سليمان بن موسى حدثنا به عنك ، قال : فأثنى على سليمان خيرا وقال : أخشى أن يكون وهم علي ا هـ .

فهذا اللفظ في عرف المتكلمين من أهل العلم يفيد معنى نفيه بلفظ النفي . وأما ما ضعفه به من أن عائشة رضي الله عنها راويته عملت بخلافه على ما في الموطإ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب بالشام فلما قدم عبد الرحمن قال : ومثلي يفتات عليه في بناته ، فكلمت عائشة رضي الله عنها المنذر بن الزبير فقال : إن ذلك بيد عبد الرحمن ، وقال عبد الرحمن : ما كنت لأرد أمرا قضيته ، فاستمرت حفصة عند المنذر ولم يكن ذلك طلاقا فأول على معنى أنها أذنت في التزويج ومهدت أسبابه ، فلما لم يبق إلا العقد أشارت إلى من يلي أمرها عند غيبة أبيها أن يعقد ، يدل على ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : كانت عائشة رضي الله عنها تخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد ، فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها : زوج فإن المرأة لا تلي عقد النكاح . وفي لفظ : فإن النساء لا ينكحن . أسنده البيهقي عنه .

وعلى كلا التقديرين فالتقدمة للصحيح ، وهو ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطإ وهو ما استدللنا به .

وعلى الثاني وهو إعمال طريقة الجمع فبأن يحمل عمومه على الخصوص وذلك سائغ ، وهذا يخص حديث أبي موسى بعد جواز كون النفي للكمال والسنة ، وهو محمل قوله { فإن النساء لا تلي ولا ينكحن } في رواية البيهقي . وبأن يراد بالولي من يتوقف على إذنه ، أي لا نكاح إلا بمن له ولاية لينفي نكاح الكافر المسلمة والمعتوهة والأمة والعبد أيضا ; لأن النكاح في الحديث عام غير مقيد .

وعلى هذا التأويل يتم العمل بالحديث الجامع لاشتراط الشهادة والولي وهو ما قدمناه من رواية ابن حبان في فصل الشهادة ، ويخص حديث عائشة بمن نكحت غير الكفء ، والمراد بالباطل حقيقته على قول من لم يصحح ما باشرته من غير كفء ، أو حكمه على قول من يصححه ، ويثبت للولي حق الخصومة في فسخه ، كل ذلك سائغ في إطلاقات النصوص ويجب ارتكابه لدفع المعارضة بينها ، على أنه يخالف مذهبهم ، فإن مفهومه إذا أنكحت نفسها بإذن وليها كان صحيحا وهو خلاف مذهبهم ، والله سبحانه أعلم . فثبت مع المنقول الوجه المعنوي وهو أنها تصرفت في خالص حقها وهو نفسها وهي من أهله كالمال فيجب تصحيحه مع كونه خلاف الأولى




الخدمات العلمية